لا يكاد يمرّ يوم إلا ويؤكّد فيه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن حركته الخارجية لا تمتّ، غالباً، بصلة للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية. فليس من قرار اتخذه حظي بموافقة الجمهوريين، فكيف بالديموقراطيين؟ وهو لا يكاد يخرج بموقف حتى يلحقه بموقف مناقض له، وهكذا دواليك. فبعدما كان يهدّد بتدمير الاقتصاد التركي بسبب صفقة صواريخ «أس 400»، عاد وأعطى الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، المبرّر للصفقة بتحميل الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، مسؤوليتها.
يدرك إردوغان أن ترامب يريده في الحملة الانتخابية إلى جانبه (الأناضول)

وبعدما حذر أنقرة من مهاجمة شمال سوريا، عاد ومنحها الضوء الأخضر قائلاً للأكراد إنه لن يدافع عنهم، ومن ثم عاد وحذّرها من التعرّض لهم. وبعد قرار الانسحاب من سوريا، عاد وأكد بقاء 600 جندي أميركي لحماية آبار النفط في شرقها بالتعاون مع «قوات الحماية» الكردية. وهكذا، في ذروة إهانته لإردوغان في رسالته «الحمقاء» الشهيرة إليه في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ها هو يلتقيه مجدداً في البيت الأبيض الأربعاء الماضي، بعدما رفض لقاءه ثنائياً على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر الفائت. وقد كان لافتاً أن إردوغان، الذي لم يردّ على رسالة ترامب «المهينة»، حمل معه الرسالة وأعادها إلى ترامب شخصياً، في خطوة قد تكون غير مسبوقة في العلاقات الدولية.
انسحاب الولايات من سوريا، باستثناء مناطق نفطية، كان إعلاناً لفشل السياسة الأميركية في سوريا. لكن ترامب لا يأبه لذلك، ويضع الانسحاب في خانة حماية أرواح الجنود الأميركيين وإعادتهم إلى بلادهم أحياء، لكسب أصوات الناخبين. وترامب يبقي جنوداً في مناطق نفطية ليطرق، من باب المال والاقتصاد، آذان الرأي العام الأميركي الذي يستسيغ ويؤيد كلّ ما يضخ أموالاً إضافية تخلق له فرص عمل جديدة، بعيداً عن القضايا والشعارات القومية الكبرى والتي جاء من يُسخّفها. وفي هذا السياق بالذات، تصبّ تغريدة المرشح الديموقراطي للرئاسة، جو بايدن، الذي اتهم ترامب بأنه «يُغلّب مصالحه الشخصية على المصالح الوطنية الأميركية، كما أنه أعطى الضوء الأخضر لإردوغان لتطهير عرقي ضد الأكراد الذين ساعدونا لإلحاق الهزيمة بداعش». الرئيس، الذي كان قد كال لإردوغان شتى الانتقادات والصفات السلبية، استقى في لقائه معه من القاموس كلّ ما يمكن أن يقال في مديح شخص آخر. ومفردة «عظيم» تحتلّ مكاناً ثابتاً في تصريحات ترامب، وقد أغدق منها على إردوغان في أكثر من قضية، من التعاون في قتل أبو بكر البغدادي، إلى الموقف من اللاجئين، والتحالف ضمن حلف «شمالي الأطلسي»... إلخ.
بخصوص اللاجئين، ترامب سأل إردوغان: «ألا يمكنك أن تأخذهم كمواطنين في تركيا؟»


بعد تنفيذ عملية «نبع السلام» وتخلّي الولايات المتحدة عن الأكراد، انفتح المجال واسعاً أمام تحسين العلاقات المتوترة بين أنقرة وواشنطن. ففي الأساس، بدأ الخلاف بين البلدين في عهد باراك أوباما بسبب دعم واشنطن للأكراد في سوريا، ولم تكن تركيا هي البادئة به. وعندما انتفى هذا الدعم، انحصر الخلاف في مسائل، لعلّ أبرزها العلاقات العسكرية بين تركيا وروسيا والتي بلغت ذروتها مع صفقة صواريخ «أس 400». قد يكون المتابع بحاجة إلى مفسّر أحلام ليتبيّن ماذا كانت محصّلة لقاء ترامب ــــ إردوغان في البيت الأبيض؛ ففي كل قضية تم تناولها كانت المواقف تتراوح ذات اليمين وذات الشمال. اهتمّ ترامب كثيراً بالعلاقات التجارية بين البلدين، فهي تمنحه دعاية هو بحاجة إليها في موسم الانتخابات، وهي التي تمنحه امتيازات داخلية. وقد وعد ترامب برفع حجم التجارة بين البلدين من 20 مليار دولار حالياً إلى 100 مليار دولار خلال سنوات قليلة. كذلك، احتلّ موضوع شراء تركيا صواريخ «أس 400» الروسية حيزاً مهماً في المحادثات. ومن خلال تصريحات ترامب، فهو يسعى، ما دامت الصفقة أُنجزت ووصل قسم منها إلى تركيا، إلى ألّا تستعمل تركيا الصواريخ وأن تبقى في صناديقها! يعمل ترامب بمبدأ الاستدراك، لذا لا مانع لديه من التخلّي عن عقوبة منع تسليم تركيا طائرات «أف 35» المتطورة، والتي كانت واشنطن قد توقفت عن تسليمها. فبيع الطائرات وجلب الأموال أفضل من منعها ومن ذهاب تركيا إلى شراء طائرات «سوخوي 57» الحديثة جداً.
العقلية التجارية التي تتقدّم على ما عداها من أولويات «وطنية»، دفعت بصحيفة «جمهورييت» ليكون عنوانها الرئيسي أمس الخميس هو «دبلوماسية التاجر». ولمحت صحيفة «قرار» إلى ارتباط الزيارة ببدء عملية عزل ترامب، الذي أراد إظهار نجاحاته الدبلوماسية والتجارية من خلال الاتفاق مع تركيا على كثير من المسائل. لكن ترامب لا يغفل استغباء الأميركيين بالإشارة إلى عوامل «وطنية» في علاقاته الجديدة مع إردوغان بقوله: «إن تركيا حليف مهم للغاية في حلف شمالي الأطلسي، ودورها مركزي في الشرق الأوسط، هي التي تملك ثاني أكبر جيش في الحلف بعد الولايات المتحدة». يدرك إردوغان أن ترامب يريده في الحملة الانتخابية إلى جانبه، لذا أعطى ترامب إردوغان، برأي «واشنطن بوست»، ما لم يعطه رئيس أميركي آخر.
أيضاً، شكّل قرار الاعتراف بالإبادة الأرمنية في مجلس النواب حيّزاً مهماً من المحادثات. وفي هذا الإطار، اقترح إردوغان على ترامب أن يتحدث أمام مجلس الشيوخ، لكن ترامب اقترح عليه في المقابل أن يعقد مؤتمراً صحافياً بحضور بعض الشيوخ، لينتهي الأمر عند هذا الحدّ. وإذ أكد الرئيس التركي أنه مصمّم على فتح صفحة جديدة في العلاقات مع الولايات المتحدة بما ينسجم مع الرابطة المتجذرة بينهما، فهو استغلّ حاجة نظيره الأميركي إليه بدعوته إلى تسليم الداعية فتح الله غولن المتهم بتزعم الحركة الانقلابية في 15 تموز/ يوليو 2016، مستغرباً كيف يملك غولن أراضي بمساحة 400 دونم في الولايات المتحدة يستخدمها لتمويل الإرهاب ودعمه. واعترف إردوغان بأن لا نتيجة مرضية في مسألة غولن. كذلك، حاول الرئيس التركي منع ترامب من إقامة علاقات وثيقة مع مظلوم عبدي كوباني، قائد قوات «قسد»، بتقديمه إلى ترامب وثائق وتقارير سرية صادرة عن وكالة الاستخبارات الأميركية نفسها بخصوص انتماء عبدي إلى حزب «العمال الكردستاني» المصنف إرهابياً لدى واشنطن كما أنقرة. وتساءل إردوغان أمام ترامب كيف يمكن للأخير أن يقترح لقاء بين رئيس دولة مهمة وزعيم لمنظمة إرهابية. ودافع في لقاءات صحافية لاحقة عن حق تركيا في طائرات «أف 35»، قائلاً إن ثمن العقد هو ملياران و400 مليون دولار وقد دفع منها مليار و400 مليون دولار، ومع ذلك لم تتسلم تركيا أي طائرة حتى الآن.
وبخصوص مسألة اللاجئين السوريين، دعا ترامب الأوروبيين إلى تحمل مسؤولياتهم. واللافت أنه سأل إردوغان: «ألا يمكنك أن تأخذهم كمواطنين في تركيا؟»، أي توطينهم، فأجاب إردوغان: «نحن نوطّن العديد منهم، مثل الأطباء والمحامين والمهندسين والمعلمين». وإذ لم يشر إردوغان إلى العلاقة مع النظام في سوريا، فقد فاجأ الصحافيين الأتراك المرافقين له بالقول: «إن تركيا لا مطمع لها في نفط سوريا. لكن كما تعلمون هناك نفط في دير الزور وفي القامشلي، وهو من النوعية الرديئة. ونحن سنقدم اقتراحاً لأميركا وروسيا بأن تستخدم أموال نفط هاتين المنطقتين في إعادة إعمار سوريا»، من دون أن يوضح ما إذا كان ذلك خاصاً بـ«المنطقة الآمنة» أو بشكل عام، متجاهلاً بالطبع أن نفط دير الزور والقامشلي هو ملك الدولة السورية، على رغم أن معظمه يقع تحت سيطرة قوات «قسد»، وأن من يملك حرية التصرف به وبكل حبة تراب في سوريا وما فوقها وما في باطنها هو الدولة السورية حصراً وليس أي جهة أخرى حتى لو كانت روسيا، فكيف بتركيا وأميركا؟!