هل هي مجرّد مصادفة أن يكون الجنوب السوري مسرحاً لتظاهرتين شعبيتين، الأولى مثلت شرارة الأزمة الحالية، وانطلقت من مدينة درعا قبل نحو تسع سنوات على وقع شعارات تطالب بالإصلاح والحرية؛ والثانية شهدتها أخيراً الساحة الرئيسية في مدينة السويداء، وطالب المشاركون فيها بتحسين الأوضاع الاقتصادية، وسط مخاوف من إمكانية تكرارها واتساعها في ضوء الضغوط المعيشية السائدة في البلاد، والاحتجاجات المتصاعدة في دول الإقليم؟قد تكون هذه مجرّد مصادفة، إلا أنها تحمل في طياتها رسائل كثيرة. وبحسب ما يعتقد الكاتب السياسي مازن بلال، فإنّ «ما يحدث في السويداء هو وليد الأزمة بالدرجة الأولى، وخصوصية هذه المنطقة أيضاً، سواء من الناحية السكانية أو بامتداداتها نحو الجولان المحتل، فخلال سني الأزمة تحوّل المزاج العام لأهلها، إن صح التعبير، إلى منطقة جبل العرب، والحساسيات التي ظهرت بين هذه المنطقة وسهل حوران نتيجة العمل المسلح، أدت إلى ظهور واقع مختلف مرشح للتطور، بسبب تبدل العلاقة بين جبل العرب ومؤسسات الدولة عموماً».
وكما هو حال جميع الأقاليم السورية، فقد شهد إقليم الجنوب منذ بداية الأزمة أوضاعاً أمنية واقتصادية واجتماعية صعبة، انعكست تأثيراتها السلبية على أنماط حياة السكان ومستوياتهم المعيشية، وقد زاد من سلبيتها الغياب الفاعل لمؤسسات الدولة وأجهزتها، حتى بعد إنجاز التسويات الشهيرة في كل من درعا والقنيطرة. وهو ما شكّل، بنظر البعض، بيئة مناسبة للفوضى والأعمال غير المشروعة، وهذا تبدّى في عمليات الاغتيال والخطف والتهريب التي تجري في مناطق عدة من الجنوب. ذلك، فإن مثل هذه البيئة، تشجّع على خروج تظاهرات احتجاجية ومطلبية كالتي حدثت أخيراً في السويداء. وبحسب الدكتور خلف المفتاح، عضو القيادة المركزية لحزب «البعث» سابقاً، فإن الأوضاع الاقتصادية «يمكن أن تكون عامل تحريض على التظاهر والاحتجاج، وتُستغل من قبل مجموعات مسلحة وتيار معادٍ للدولة في السويداء»، موضحاً أنه «كان لذلك التيار نشاط سلبي ضد الدولة منذ عدة سنوات. وقام بعمليات احتجاج وخطف في أغلب مناطق السويداء، منها خطف وقتل أمين فرع الحزب بالسويداء قبل أربع سنوات. أما في درعا فإن الحالة الأمنية لم تستقر بشكل كامل، حيث جرت عمليات اغتيال وتفجيرات في بعض المناطق بسبب طبيعة التركيبة الاجتماعية، وتواجد أعداد كبيرة من المسلحين فيها. إضافة إلى تداخل الحدود السورية ــــ الأردنية».

من البوابة الاقتصادية!
يتصدّر تدهور الوضع الاقتصادي، والناجم أساساً عن الحصار المفروض أميركياً على البلاد، وتعاظم دور شبكات الفساد وأثرياء الحرب، قائمة الأسباب التي قد تضع الجنوب السوري أو بعض مناطقه أمام مشهد جديد كالذي شهدته السويداء أخيراً، إنما على نطاق أوسع. وربما هذا ما دفع بالرئاسة الروحية للمسلمين الموحدين (الدروز) إلى مطالبة الجهات الحكومية في بيان خاص، بأن «تضع خطة إنقاذ اقتصادية لكبح جماح الفساد واللصوص والخاضعين، ودرء مخاطر الأزمة لننعم كشعب سوري بالطمأنينة والأمان».
وتظهر المؤشرات الاقتصادية لمرحلة ما قبل موجة الغلاء الأخيرة، أن محافظات الجنوب الثلاث (درعا ـــ السويداء ـــ القنيطرة) تكاد تتصدّر دائماً المحافظات بمشاكلها وتفاقم مؤشراتها، فالبيانات الرسمية تشير إلى أن أعلى نسبة للأشخاص غير الآمنين غذائياً سُجلت في كل من السويداء ودرعا، إذ وفق نتائج مسح الأمن الغذائي المنفّذ عام 2017 بين الحكومة السورية وبرنامج الغذاء العالمي، فقد وصلت نسبة عدد الأشخاص غير الآمنين غذائياً في محافظة السويداء إلى حوالى 46.5%، ولتكون بذلك هي المحافظة الأولى بين المحافظات بعدد غير الآمنين غذائياً فيها. ثم جاءت محافظة درعا بنسبة 42.5%، ولتكون أيضاً المحافظة الثانية بنسبة غير الآمنين غذائياً. وليس هذا فحسب، فالمسح المذكور أكد أن حوالى 40.4% من سكان درعا، و39.9% من سكان السويداء، و41.4% من سكان القنيطرة، معرّضون لانعدام أمنهم الغذائي، وهذا ربما ما حدث فعلاً مع موجة الارتفاعات السعرية الأخيرة، التي زادت عن 100% لكثير من السلع الأساسية.
طالبت «الرئاسة الروحيّة» للدروز الدولة بأن تضع خطّة إنقاذ اقتصاديّة لكبح جماح الفساد


ولا تختلف كذلك نسبة البطالة في محافظات الإقليم الجنوبي، فبيانات المسح الديمغرافي الاجتماعي الأخير الذي أجراه المكتب المركزي للإحصاء، تشير إلى أن المحافظات الثلاث تحتفظ بنسبة مرتفعة من البطالة، فأعلى نسبة للظاهرة في البلاد موجودة في القنيطرة 27.9%، فيما بلغت في السويداء 24.1%، وفي درعا 21.9%، علماً أن هناك شكوكاً متعددة تحيط بهذه النتائج، إذ في الوقت الذي تذهب فيه كل التقديرات إلى القول إن معدل البطالة على مستوى البلاد تجاوز 50% تأتي نتائج هذا المسح لتعلن أن النسبة لم تتجاوز 25%. لكن في كلتا الحالتين، فإن الفجوة التي تتسع يوماً بعد يوم بين الدخل الضعيف ومستوى الأسعار المرتفع، تضيف مزيداً من الفقراء المعدومين إلى القائمة الطويلة المتشكّلة منذ سنوات ما قبل الأزمة. ولذلك، فإنه من المنطقي ـــ بحسب رأي الكاتب السياسي بلال ـــ أن تكون «الأسباب الاقتصادية أساسية لأي حالة عدم استقرار في سوريا أو غيرها من الدول، لكننا في سوريا نقف على عتبة خطرة جداً، لأن الواقع الاقتصادي يأتي في مرحلة تتحدث فيها الحكومة عن التعافي، فهو خلق أزمة ثقة ربما ليست جديدة لكنها الأخطر منذ عقود». ويضيف في حديثه لـ«الأخبار» أنه «على الرغم من أن المؤشرات لا تدفع لتوقع اضطرابات شبيهة لما حدث في لبنان، إلا أن التدهور الاقتصادي يشكل بوابة يمكن استخدامها من قبل أي طرف إقليمي أو حتى داخلي لإثارة اضطراب جديد، فنحن لسنا في مرحلة (التعافي)، بل المواجهة مع الواقع الذي خلّفته الأزمة».

فوضى أمنية واجتماعية
تزداد الصورة قتامة مع ملاحظة أن تراجع الوضع الاقتصادي في محافظات الجنوب يتزامن مع خلل اجتماعي وأمني شكّل غطاءً لكل الأعمال غير المشروعة، التي تبدأ بعمليات الاغتيال للشخصيات المؤيدة للحكومة كما هو الحال في محافظة درعا، وتمرّ بعمليات الخطف والسرقة كتلك التي تعاني منها مدينة السويداء حالياً، وصولاً إلى شبكات التهريب الواسعة المستفيدة من الحدود الواسعة المشتركة مع الأردن، وكذلك مع البادية السورية، وهي بنظر كثيرين الأخطر، كونها تتعامل مع مجموعات تتعدى مصالحها البعد الاقتصادي. هذه جميعها ظواهر سلبية أسهمت في انهيار مؤشر الأمان بنسب مختلفة وفقاً لما خلصت إليه نتائج مسح السكان عام 2014، والتي كشفت عن ظهور جرائم جديدة على المحافظات الثلاث، أو زيادة عدد ما هو موجود منها سابقاً، تماماً كما حدث في جميع المحافظات السورية. ففي محافظة درعا مثلاً، تم تسجيل زيادة في ظاهرة القتل من 0.2 قبل الأزمة إلى 1.7 خلال الأزمة، وفي الخطف من 0.1 إلى 1.7، وفي السرقة من 1 إلى 2.8، وفي التهريب من 0.3 إلى 1.6. كذلك الأمر في السويداء التي سجلت فيها زيادة واضحة في ظاهرة الخطف من 0 إلى 1.1، وفي السرقة من 0.7 إلى 1.8. وهي ظواهر باتت مؤثرة بشكل عميق على النسيج الاجتماعي للمنطقة، وهذا ما قصده الدكتور المفتاح في حديثه لـ«الأخبار» بأن «ثمة تأثيراً سلبياً للأوضاع الاقتصادية على السلم الأهلي وحالة الاستقرار. وقد تتطور سلباً وتتّسع دائرتها وإن بشكل محدود إذا لم تتحسن الظروف المعيشية للمواطنين، وتتم معالجة جذرية لأسبابها كمكافحة الفساد والحد من ظاهرة التهريب وسوء الإدارة، فضلاً عن أهمية استعادة مناطق الثروة في سوريا، ونقصد منطقة الجزيرة التي تسيطر عليها (قوات سوريا الديمقراطية) والقوات الأميركية».

ما وراء الحدود
عامل ثالث يفاقم المخاوف على مستقبل الجنوب، يتعلق بالموقع الجغرافي القريب من حدود فلسطين المحتلة والأردن، وما يشكله ذلك من محاولات مستمرة يبذلها الأميركي والإسرائيلي للمحافظة على الخلايا والمجموعات التي تعاونت معهما على مدار سنوات الأزمة. لذلك، يبقى الجنوب بنظر الكاتب بلال، «منطقة خطرةً نظراً إلى تداخله الجغرافي مع الأردن ومع جبل العرب، لكنه مثل باقي الحدود السورية يشكّل نقاط تماس في حال عدم الاستقرار، فالأزمة الأخيرة ربما أعادت إلى الأذهان إمكانية تصاعد التوتر ابتداءً من أي نقطة حدودية سورية، نتيجة الخارطة السياسية المتشابكة مع الجوار السوري، وهذه المناطق هي أيضاً نقاط توتّر اقتصادي نتيجة التهريب أحياناً أو حتى تجارة الترانزيت، ومن هذه الزاوية، فإن منطقة حوران تبدو أهم، كونها المعبر السوري الأساسي نحو الجنوب».