شكري إيليكداغ، من الأسماء المعروفة جدّاً في عالم الدبلوماسية والسياسة في تركيا. يُعتبر من أبرز السفراء الأتراك الذين تولّوا السفارة التركية لدى واشنطن لعشر سنوات كاملة، من عام 1979 إلى عام 1989. وبعد ذلك، كتب كثيراً في الصحف التركية في القضايا الاستراتيجية وأصبح نائباً بين عامي 2002 و2011 عن حزب «الشعب الجمهوري». وقد دافع إيليكداغ مراراً عن ضرورة أن تكون لتركيا سياسة خارجية علمانية بعيداً من التدخل في الشؤون الداخلية للدول وعن المغامرات الخارجية العبثية. شكري إيليكداغ، الذي يبلغ الآن من العمر 96 عاماً، لا يزال يحتفظ بذاكرة متّقدة وحيوية مقاربة الأوضاع والتحدّيات المطروحة أمام تركيا.صحيفة «سوزجي» أجرت، أول من أمس، حواراً مع السفير المتقاعد والنائب السابق، تطرّق فيه شكري إيليكداغ خصوصاً إلى الوضع في سوريا، وإدلب تحديداً، كما إلى العلاقات التركية - الروسية، في وقت ينشغل الجميع فيه بوباء «كورونا» الذي يضرب تركيا أيضاً، حيث يقترب وبسرعة عدد الوفيات من ألف شخص وعدد الإصابات من الأربعين ألفاً.
في الخامس من آذار الماضي، وقّع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اتفاق موسكو الذي أنهى المعارك في منطقة إدلب بين الجيش السوري ومن معه، ومنهم روسيا، وبين الجيش التركي ومنه معه من تنظيمات متطرّفة متواجدة هناك. ومن أهم ما جاء في الاتفاق إخلاء تركيا منطقة بعمق 6 كلم شمال طريق «إم 4» بين اللاذقية وحلب وعمق 6 كلم جنوبها وتسيير دوريات مشتركة تركية - روسية على هذه الطريق. لكن، في اليوم الأول لبدء تسيير الدوريات، تعرّضت للمنع من قبل التنظيمات المسلّحة، وبعد أيام حصل اشتباك بين الجيش التركي وهؤلاء المسلحين انتهى إلى مقتل جنديين تركيين.
وفي إثر ذلك، بدا اتفاق موسكو مجمّداً أو معلّقاً. ومن ثم جاء وباء «كورونا» ليشغل الجميع به مع صمت حذر على جبهات القتال وصمت عن تطبيق الاتفاق. لكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمرّ طويلاً لتدخل الأوضاع، بذريعة «كورونا»، مرحلة شبيهة بالمرحلة السابقة لجهة عدم تطبيق الاتفاق الجديد وبقاء المسلّحين المتفق على تصفيتهم في أماكنهم الحالية، وما يعنيه ذلك من احتمال استئناف المعارك مجدداً واستكمال الجيش السوري تحرير المناطق المحتلة من إدلب والخاضعة لسيطرة الجيش التركي والتنظيمات المسلّحة.
يرى شكري إيليكداغ أن اتفاق موسكو فخّ لتركيا ما كان يجب على إردوغان القبول به. لأنه كلّف الجيش التركي بمهمّة قذرة، وهي تطهير شمال وجنوب طريق «إم 4» من المسلّحين. وقال إن تصدّي أنقرة لمثل هذه المهمّة يعني إيقاظ الخلايا النائمة من السلفيين - الجهاديين في تركيا والبدء بعمليات انتحارية في الداخل التركي، مذكّراً بأنه في عام 2016 وحده حصلت 16 عملية انتحارية أسقطت 308 قتلى من المواطنين الأتراك. وبالتالي، إن تهديد روسيا لتركيا بضرورة تطهير المنطقة من المسلّحين المصنّفين إرهابيين وسقوط قتلى للجيش التركي هو أمر غير طبيعي.
ويقول إيليكداغ إن أمام تركيا سيناريوين: الأول، إقناع «هيئة تحرير الشام» بحلّ نفسها والانضمام إلى «الجيش السوري الحر» أو تصفية «الهيئة» بالقوّة العسكرية، وهذا سيحمل لتركيا نتائج كارثية. وإذا لم تف تركيا بالتزاماتها فسيتقدّم الجيش السوري بنفسه لضرب «الجهاديين»، وهذا سيترتّب عنه موجة هجرة ضخمة إلى الحدود التركية.
وينظر إيليكداغ إلى تهديدات وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، بالرد على أي هجوم سوري، على أنها فارغة وتساوي صفراً. لأن تركيا لم تستطع الرد على الضربة الجوية الروسية على الجيش التركي في 27 شباط، والتي قتلت 36 جندياً تركياً. ولم ترضخ دمشق وموسكو لتهديد إردوغان الذي أعطى مهلة حتى نهاية شباط للجيش السوري للانسحاب من المناطق التي استولى عليها. بعد كل هذه التطورات، لم يعد لتهديدات تركيا أيّ تأثير.
ويرى إيليكداغ أن الضربة الجوية الروسية، التي أدت إلى قتل 36 جندياً، كان هدفها أولاً إخضاع تركيا للخطوط الحمر الروسية في سوريا، وثانياً إفهام تركيا أن أيّ تحرّك عسكري تركي في سوريا لن يصل إلى أي هدف من دون مساعدة روسيا. ويردف إيليكداغ قائلاً إن فقدان تركيا لقوّة الردع داخل إدلب، وفي ضوء التهديد الذي يمثّله وباء «كورونا» للقوة العسكرية التركية في إدلب، فإن الأفضل لتركيا أن تسحب هذه القوات وتعيدها إلى البلاد.
إيليكداغ: الأفضل لتركيا أن تسحب هذه القوات وتعيدها إلى البلاد


ووصف السفير إيليكداغ مشاهد الفيديو، التي عرضتها قناة روسية رسمية حول طريقة استقبال بوتين لإردوغان، بأنها عدم احترم وقلّة أدب وما كان ليسمح بها لولا موافقة بوتين عليها. وهذا أمر يحرج تركيا والرأي العام ويدفع إلى القول إن روسيا ليست شريكاً يوثق به. بل إنه، خلا بعض العناوين المحدّدة في سوريا، فإن من الخطأ أن نصف العلاقات التركية - الروسية بأنها شراكة استراتيجية، بل هي علاقات مصلحية على قاعدة البيع والشراء، وهذا مفيد للبلدين.
ووصف إيليكداغ الموقف الأميركي، المؤيّد لتركيا أثناء تطوّرات إدلب، بأنه زائف ويهدف إلى التحريض على العلاقات التركية- الروسية. وقال إن واشنطن تفرض عقوبات اقتصادية وعسكرية على تركيا والوعود التي تطلقها ببيع صواريخ «باتريوت» في حال أوقفت العمل بصواريخ «أس 400» هي وعود فارغة.
وعن تصوّره للحل في إدلب، قال إيليكداغ إن تركيا تريد إقامة «منطقة آمنة» واسعة حدودها شرقاً طريق «إم 5» وجنوباً «طريق أم 4» وتكون التنظيمات المتطرّفة تحت سيطرتها. لكن هذا المشروع خطير جداً على تركيا، إذ يسمح لـ«هيئة تحرير الشام» البقاء وتحويل إدلب إلى بيشاور جديدة بالنسبة إلى تركيا. الحل الواقعي في المرحلة المقبلة أن تسحب تركيا كل قواتها من هناك وإقامة منطقة آمنة بعمق 10كلم ووضع نقاط مراقبة على حدود هذه المنطقة مع الجيش السوري.