سوريا: آذار رابع... ولا ربيع | دير الزور | تعدّ محافظة دير الزور، ضمن التصنيفات الجغرافية والإدارية للدولة، محافظة «نائية» عن العاصمة السوريّة، إلى جانب محافظتي الرقّة والحسكة. وهذا التصنيف تجسّد في تدنّي مستوى الخدمات والتعليم فيها قبل الأزمة وخلالها. وتتميّز المحافظة الشرقية بتركيبتها العشائرية الخاصة التي لعبت، ولا تزال، دوراً أساسيّاً في طابع الحراك السياسي والعسكري فيها منذ عام 2011.
وإن وجود آبار النفط على نحوٍ كثيف في المحافظة، دخل بشكل كبير في الصراع، لا سيّما بين جماعات المعارضة المسلّحة. وهذا الصراع تفاقم في الأسابيع الأخيرة التي شهدت مواجهات بين تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وسائر الفصائل المعارضة في الريف الغربي والشرقي للمحافظة، ما أدّى إلى طرد «داعش» في اتجاه الحدود الغربية والشمالية لدير الزور.


توزّع الجيش والجماعات المسلّحة

تسيطر المعارضة المسلّحة على معظم أراضي محافظة دير الزور. وينتشر الجيش على ثلث مساحة المدينة تقريباً، في أحياء الجورة والقصور والطلائع غرب المدينة، إضافة إلى مطار دير الزور وحي الجفرة المجاور له عند المدخل الجنوبي للمدينة على طريق البوكمال. فيما تسيطر فصائل المسلّحين، «الجيش الحر» و«جبهة النصرة» على شرق المدينة وشمالها والمطار القديم وأحياء الجبيلة والحميدية والموظفين. أما وسط المدينة فهو جبهة ساخنة، يجري القتال فيها على نحو شبه متواصل.
في ريف المحافظة، ينحصر وجود الجيش السوري في محيط بلدات موحسن والمريعية والعبد جنوب شرقي المدينة، فيما يسيطر مسلّحو «النصرة» و«الحر» و«الجبهة الإسلامية» على بقية مدن وبلدات الريف الشاسع الذي يمتد على طول 150 كلم جنوباً.
معظم المناطق المأهولة في ريف دير الزور تقع إلى الجهة الجنوبية الشرقية منها على امتداد حوض نهر الفرات، بينما يتوزّع عدد قليل من القرى في محيط المدينة الشمالي والشرقي الذي يعدّ امتداداً للبادية السورية. وينقسم الريف الجنوبي الشرقي إلى خطّين متوازيين: خط الشامية، ويضم المدن والبلدات الواقعة غرب نهر الفرات، وخط الجزيرة الذي يمثّل شريطاً يقع شرق النهر يحاذي امتداد الحدود السورية ــــ العراقية.


بين العشائرية والانتماء السياسي

تعمل أعداد كبيرة من أبناء خط الجزيرة في بلدان الخليج العربية منذ نحو ثلاثة عقود تقريباً. فما إن ينتهي الشاب من الخدمة الإلزاميّة، حتّى يهاجر إلى إحدى دول الخليج طلباً للرزق، ولا يبقى في قرى الجزيرة المبعثرة إلا كبار السن والنساء والصبية. وللهجرة إلى الخليج طابع يظهر في تفاصيل حياة الجزيرة، سواء عبر اللباس واللهجة والنمط المعماري والعادات والتقاليد، كظاهرة تعدّد الزوجات التي تفشّت بدرجة كبيرة في العقد الأخير في تلك المنطقة. ولكن أخطر ما جرى استيراده من الخليج هو الفكر الوهابي، من خلال ظاهرة «المطاوعين» الذين يقومون بالدعوة للعبادة والتشريع الإسلامي على الطريقة الوهابية «التي كثيراً ما تتناقض مع الحياة الريفية الأصليّة البسيطة في منطقتنا»، يقول عبد السلام المزعل، ابن قرية العباس، من منطقة الشاميّة (90 كلم جنوب مدينة دير الزور).
يقاتل المزعل إلى جانب أفراد عشيرته، عشيرة «الدميم»، إلى جانب «الجيش الحرّ». ويضيف: «أغلب المطاوعين قادة اليوم في جبهة النصرة والجبهة الإسلامية التي تسجّل حضوراً أقل في تلك المنطقة. هؤلاء ليسوا ثواراً، بل موظفون منذ سنوات عدة لدى شيوخ خليجيين، يقومون بالدعوة عبر المطاوعين مقابل الهبات والأعطيات».
في المقابل يتهمّ مقاتلو «النصرة» عناصر «الحر» بأنهم «لصوص وقطاع طرق، ولا يمتلكون أيّة مرجعية أخلاقيّة أو شرعيّة»، بحسب سالم الأنصاري، أحد المقاتلين في صفوف «النصرة». ويصف الأنصاري، ابن بلدة شحيل (ريف دير الزور) في حديث مع «الأخبار»، نزعة مقاتلي «الحر» العشائرية بـ«الجاهلية»، بما تحمله من «فساد في الأرض». مثل هذا السجال القاسي يدور يوميّاً في العديد من المجالس والمناسبات في ريف دير الزور، لكن من دون أن يفسد «للودّ العشائري» أي قضيّة. فعادة ما تتوزّع أفخاذ عشيرة واحدة بين «الحرّ» و«النصرة» و«الجبهة الإسلاميّة»، كأبناء عشيرة «العكيدات» الممتدّة بين الشامية والجزيرة، كذلك يوجد أبناؤها في معظم مناطق ريف المحافظة. ويشرح سهران العكيدي لـ«الأخبار» أنّ «العرف العشائري لا يزال هو الفصل بين أفراد العشيرة وبين أيّة عشيرة والعشائر الأخرى».
أما الانتماء إلى التنظيمات المسلّحة، «فلا يزال يعدّ نوعاً من الفروق الثانويّة في منطقتنا». إذ إن معظّم قرى الشاميّة يسيطر عليها «الجيش الحر»، وهي قرى: العبد المريعية وموحسن وبقرص والميادين والعشارة والقورية والصالحية والمجاودة والعباس والجلاء، وصولاً إلى مدينة البوكمال في أقصى الجنوب الشرقي. كما تعدّ موحسن والقورية ومدينة دير الزور معاقل رئيسية لـ«الحر» في المحافظة، في حين يتداخل وجود «جبهة النصرة» مع «الحرّ» في الشامية، ويطغى في الجزيرة. وتسجّل «الجبهة الإسلاميّة» وجوداً محدوداً في مختلف تلك المناطق، وتنسب عادة إلى «النصرة» نظراً إلى تنسيقها العالي معها. «ومع كل ذلك، لم يحدث أي صدام بين هذه التنظيمات، والسبب هو الانضباط العشائري العالي لأبناء محافظة دير الزور»، يضيف العكيدي.
وتتداخل المواقف السياسية حول الأحداث السورية من منطقة إلى أخرى في دير الزور. فمع التوغل شرقاً نحو الجزيرة، ترتفع الأصوات المعارضة للدولة. يقول المقاتل في «جبهة النصرة» حسين السراوي إنّ «النظام بالنسبة لنا عدوٌ، حتى قبل الثورة. لم نستفد من الدولة بشيء، فلا تعليم ولا خدمات، فيما لم تتوقّف الضرائب والرشى والنهب والظلم يوماً». وينتمي حسين إلى عشيرة البوسرايا التي تتوزّع في مناطق البصيرة وبلدة البوسرايا، على خط الجزيرة الذي تسيطر «النصرة» على أغلب بلداته: جديد البكارة وجديد العكيدات والشحيل وخشام والشعيطات وأبو حمام وهجين والشْعفة. أما انتماء حسين إلى «النصرة» فهو نتيجة لانتماء «أولاد عمّه» (أي أبناء عشيرته باللغة العشائرية) إلى هذا التنظيم الذي لمع نجمه أخيراً نتيجة تلقيه دعماً أكثر من أيّ فصيل معارض آخر.

الصراع على النفط

غدت السيطرة على آبار النفط البوابة الرئيسية لأي صراع محتمل بين المسلّحين. تنظيم «داعش» أطلق شرارة هذا الصراع، إذ استولى على حقليّ الجفرة وكونيو قبل بضعة أشهر، وعلى مجموعة من المطاحن والمعامل وصوامع الحبوب في ريف دير الزور الشرقي والغربي القريب، إضافة إلى سيطرته على منجم الملح في ريف دير الزور الغربي في بلدة التبني. قبل ذلك، كل تلك النقاط كانت تخضع لسيطرة «جبهة النصرة» التي نظّمت ردّاً عسكرياً قوياً على «داعش» بمساعدة من «الجبهة الإسلامية». فتمّ طرد مقاتلي «داعش» إلى منطقة مركدة والشدادة في ريف الحسكة وإلى محيط منجم الملح في التبني، إذ وقعت معارك عنيفة ذهب بنتيجتها عشرات القتلى من «داعش». ويذكر أن العامل العشائري برز حتّى في تلك المواجهات، «فمعظم مقاتلي داعش من الغرباء (الأجانب)»، يقول محمد الدهموش، المقاتل من «النصرة»، الذي لفت إلى وجود عدد غير قليل من أبناء المنطقة من المتعاطفين مع «داعش» إلى حد بات شائعاً في المنطقة إطلاق وصف «الصحوات الشاميّة» على مقاتلي «النصرة» و«الجبهة الإسلامية».