منذ الأيام الأولى لتسلّمه منصبه، قصد وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، طلال البرازي، مقرّ غرفة تجارة دمشق ثلاث مرات، طالباً المساعدة في تخفيض أسعار السلع والمنتجات في الأسواق المحلية. وللغرض نفسه، زار البرازي غرفة صناعة دمشق وريفها. لكن ما حصل عليه الوزير من وعود في تلك الزيارات بقي مجرّد كلام لم يلمس المواطن أصداءه الإيجابية، لا بل إن أسعار العديد من السلع عاودت الارتفاع، في وقت لا تجد فيه الحكومة مانعاً من الاستجابة مجدّداً لمطالب بعض الصناعيين والتجار، عبر السماح لهم بتصدير الكمامات والمنظّفات والمعقّمات وبعض السلع الغذائية، على رغم ارتفاع أسعارها محلّياً.
الضغط التقليدي
شكّلت غرف التجارة والصناعة، تاريخياً، إلى جانب اتحاد نقابات العمّال والمنظّمات والنقابات المهنية، إحدى الجهات المؤثّرة في صناعة القرار الاقتصادي الحكومي. وهي سمة ليست دائماً ذات مدلول سلبي؛ إذ يُفترض أن هذه التجمعات تُمثّل مصالح منتسبيها وأعضائها، ومن واجبها الدفاع عنها، إلا أن الأمر يبدو مختلفاً لدى محاولة بعضها فرض ما يتعارض وأولويات المواطنين ومصالحهم، باستخدام أدوات ضغط مختلفة، كالحملات الإعلامية وإرباك أوضاع السوق المحلية وغيرهما. ولعلّ من أكثر الأمثلة حضوراً هنا، الموقف من استيراد العديد من السلع والمواد، بدءاً من الألبسة المستعملة (البالة) وليس انتهاءً بمادة السيراميك، فضلاً عن الضغط المتزايد من قِبَل قطاع الأعمال للحصول على مزيد من المزايا والتسهيلات والإعفاءات الضريبية، كما هي الحال في مشروع قانون الاستثمار المرتقب صدوره، في وقت يُرفض فيه اقتراح تعليق أو إلغاء الضريبة المفروضة على الرواتب والأجور المتدنية أصلاً.
توضح وزيرة الاقتصاد والتجارة الخارجية السابقة، لمياء عاصي، في حديث إلى «الأخبار»، أن «مجموعات الضغط الاقتصادية تَتشكّل من رجال أعمال وأصحاب شركات كبيرة، وهي تؤثّر في القرار والسياسات الاقتصادية الحكومية لضمان مصالحها». وتضيف أنه «في الدول المتقدّمة نجد مجموعات ضغط مقابِلة تتألّف من النقابات أو الجمعيات المهنية أو المجتمع المدني، تقوم بالتصدّي لبعض القرارات وتجبر الحكومات على تغيير القرار أو السياسة الحكومية، مثل جمعيات أو أحزاب البيئة التي كان لها نشاط حيوي أَجبرت من خلاله الحكومات على تغيير قراراتها في شأن مشروعات كبيرة يمكن أن تؤذي البيئة. أما الوضع في سوريا فيقتصر على مجموعات الضغط الاقتصادية التي تَتمثل في رجال الأعمال فقط، في حين أن النقابات والاتحادات ليست مجموعات ضغط مقابِلة حقيقية لكونها لا تمارس ضغطاً يذكر».
لرجال الأعمال الجدد حظوة لافتة على حساب أبناء الطبقة البرجوازية المعروفة


غيّرت الحرب من المفهوم السابق لجماعات الضغط الاقتصادية، ومن خارطة توزّعها في البلاد، حيث أدّت إلى بروز جهات وشخصيات جديدة، تَمكّنت من فرض إرادتها الاقتصادية في جوانب عديدة، والاستحواذ على أنشطة مشروعة وغير مشروعة، مستفيدة في ذلك من تبعات الحرب والعقوبات الخارجية وعلاقاتها مع بعض المسؤولين الحكوميين. وفي هذا الإطار، تشير عاصي إلى أن «عملية الضغط على المجموعة الحكومية واضحة للعيان، بدليل السياسات المتعثّرة والمتخبّطة التي تؤدي بمجملها إلى تكدّس الثروات عند الأثرياء وتعميق الفقر عند غالبية الناس، حيث لا توجد قرارات اقتصادية تعكس رؤية وطنية تهدف إلى نهوض اقتصادي شامل بعيداً عن مصالح ضيّقة لبعض رجال الأعمال». وتلفت إلى أنه «من دون شك، هناك مصالح متبادلة بين رجال الأعمال وبعض متخذي القرار وصانعيه من الموظفين الحكوميين»، وهذه المصالح يتمّ التعبير عنها بأشكال متعدّدة، كالضغط باتجاه إصدار قرارات اقتصادية معيّنة من خلال طبيعة المعلومات التي يجري تقديمها إلى الجهات المعنيّة، أو تسريب مشروعات قرارات للرأي العام أو جزء منه للحيلولة دون صدورها، أو ضرب المنافسين ومصالحهم وغير ذلك.
لكن غياب الشفافية، والغموض الذي يلفّ الكثير من الإجراءات الاقتصادية، وعجز الحكومات المتعاقبة عن حسم بعض الملفات المشبوهة، جميعها عوامل تدفع الباحثة الاقتصادية، رشا سيروب، إلى توصيف الأمر على أنه «أعمق من مجرّد وجود جماعات ضغط، هي برأيها خاضعة لقوى أخرى، ولا تؤثر إلا في الحدود المرسومة لها». وتُبيّن سيروب، في حديث إلى «الأخبار»، أن «جميع الاتحادات والغرف والنقابات تعمل تحت وصاية الوزارات المختلفة؛ على سبيل المثال، يتمّ تعيين ثلث أعضاء مجلس إدارة غرفة الصناعة من قِبَل وزارة الصناعة، والنظام الداخلي يصادق عليه الوزير، وذلك وفقاً للمرسوم التشريعي 52 لعام 2009».

حظوة قطاع الأعمال
يوماً بعد يوم، يترسّخ الاقتناع بفاعلية أصحاب المال والأعمال في صناعة القرار الاقتصادي، في ظلّ غياب المبرّرات الموضوعية للعديد من السياسات والتوجّهات الحكومية، والحظوة اللافتة لأثرياء الحرب ورجال الأعمال الجدد على حساب أبناء الطبقة البرجوازية المعروفة. وللتدليل، تكفي هنا الإشارة إلى إغلاق ملفات تفتيشية لرجال أعمال كثر مقابل تسديد ما يَترتّب عليهم من مبالغ مالية للخزينة العامة، في حين يتمّ صرف كثير من الموظفين من الخدمة على الشبهة، أو توقيف بعضهم على ذمّة التحقيق. وحتى عندما يتحرّك بعض الجهات الحكومية للمطالبة بحقوق الدولة المالية، «تقوم الدنيا ولا تقعد».
تُذكّر عاصي، في هذا السياق، بأن «دفاع المسؤولين غالباً ما يكون عن مصالح شخصية لمجموعة من رجال الأعمال على حساب المصلحة العامة والأجندة الوطنية»، علماً بأن هذه المصالح تتباين في العديد من الملفات، «مثل السجال الطويل الدائر بين التجار والصناعيين حول إمكانية اعتبار الأقمشة من المواد الأولية أو لا، وهو ما لم تستطع الحكومات المتعاقبة حسمه إلى الآن». وتستشهد الوزيرة السابقة، كذلك، بقرار «اعتبار السيارات المستوردة لمصلحة البعض سيارات مجمّعة محلياً، من خلال الالتفاف على القانون في موضوع صناعة تجميع السيارات، والتي هي في الأساس صناعة وهمية خسرت بسببها الخزينة العامة مليارات الليرات. وهناك أيضاً قرار تمويل المستوردات ومنح القروض الكبيرة للبعض. كلّ تلك القرارات وغيرها الكثير يُفسّرها زواج المصلحة بين المسؤولين الحكوميين وكبار رجال الأعمال الذين باتوا يشكّلون مجموعات الضغط الاقتصادية»، على حساب دور المؤسسات التقليدية المُمثِّلة لقطاع الأعمال كغرف التجارة والصناعة.
وبالنسبة إلى سيروب، فإن هذه الأخيرة فقدت تأثيرها منذ زمن، فـ»في فترة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان بالإمكان القول إن غرف الصناعة والتجارة تُمثّل جماعات ضغط تقليدية، وكانت فعلاً تعمل وفق مفهوم جماعات الضغط (تحقيق مصالحها القطاعية من دون إغفال انعكاس هذه المصلحة على المواطن والدولة على السواء). أما الآن، وإذا ما افترضنا أنهم يمثلون جهات ضغط، فهم في حقيقة الأمر أضعف بكثير، إذ يعملون منفردين متضادّين، والمصالح المركّزة تفوز عادة على المصالح المتفرّقة، ومن يملك الذهب هو من يضع القواعد».
ومع أن السنوات الأخيرة شهدت دخول شبكات التواصل الاجتماعي دائرة الضغط على الحكومة، وحتى على قطاع الأعمال لتعديل بعض الإجراءات والسياسات غير الشعبية، إلا أن الواقع يشير إلى أن جزءاً غير بسيط من تلك المنصّات والصفحات يمثّل واحدة من أدوات الضغط الذي يمارسه أصحاب المصالح والأعمال، الذين أدرك بعضهم أهمية وسائل الإعلام الجديد في توجيه الرأي العام، وممارسة الضغط على المؤسسات والشخصيات الحكومية لتحقيق مصالحهم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا