دمشق | يتّفق العديد من الخبراء والمراقبين في سوريا اليوم على أن الانتقال نحو اللامركزية الإدارية يمثّل أحد مداخل الحلّ السياسي في البلاد، انطلاقاً من الحاجة إلى تغيير العلاقة بين السلطة المركزية والإدارات المحلّية، لتكون علاقة إشراف وتشاركية ومساعدة، بما يتيح أيضاً تغيير العلاقة بين الأخيرة ومَن تُمثّلهم، بحيث تكون عينها على الناخبين ورضاهم، وليس على السلطة المركزية ورضاها. هذا التحوّل، وإن كان له بعد إداري مهمّ لناحية مساهمته في حلّ مشكلات العجز المؤسّساتي، فإن له أيضاً أبعاداً سياسية لا تقلّ أهمية، إذ من شأنه أن يعالج العديد من المشكلات، وعلى رأسها استبعاد المواطنين من دائرة اتخاذ القرار في مناطقهم، خصوصاً إذا ما مُنحت الإدارات المحلية هوامش واسعة، بعيداً عن الوزارات السيادية. انطلاقاً من ذلك، مثّل "قانون الإدارة المحلية 107"، الذي صدر كطرح إصلاحي في ذروة الاحتجاجات في سوريا عام 2011، جزءاً أساسياً من النقاشات الأخيرة التي دارت بين الحكومة و"قسد" (الإدارة الذاتية)، بحسب مصادر شاركت في الحوار، حيث طُرحت فكرة توسيع القانون وتعديل بعض بنوده لتصبح "لامركزية إدارية موسّعة"، خصوصاً أن النظام الإداري المُعتمد في مناطق سيطرة "قسد" حالياً، لا يبتعد كثيراً عن روح الـ"107". وعلى رغم أن القانون المذكور يُنظر إليه بإيجابية لدى العديد من الأطراف والقوى في البلاد، خصوصاً أنه كان مُعتمَداً لدى المجالس المحلية التي شكّلتها المعارضة خلال سيطرتها على الغوطة الشرقية مثلاً، إلا أنه، بحسب أحد الخبراء الذين شاركوا في صياغته، "لم يُستكشف بعد على أرض الواقع من قِبَل الحكومة، لأن غالبية مواده غير مفعّلة، علماً أن فيه هوامش كبيرة للإدارات المحلّية كي تعمل وتدير شؤونها لا مركزياً". أمّا المطلوب من السلطة المركزية لتسهيل العمل بالقانون، فهو بدايةً الحدّ من صلاحيات الوزير (المركزي) والمحافظ (المُعيّن من قِبَل السلطة المركزية) على المجالس المحلية، وكذلك "التوقّف عن التفكير بعقلية جعل هذه الإدارات المحلية تحت رحمة الوزير والمحافظ، من أجل البقاء في المنصب أو توفير التمويل والموارد أو لأسباب أخرى". ويرى خبير الإدارة المحلية، بشار مبارك، في هذا الخصوص، أن "السلطة المركزية بأمسّ الحاجة اليوم إلى تطبيق اللامركزية الإدارية، لأن لديها نضوباً حادّاً في الموارد، وضعفاً في البنى المؤسّساتية، ولكي تُحقّق هذا الانتقال من المركزية الشديدة إلى اللامركزية، عليها أن تُغيّر العقلية الحاكمة، وأن تدرك مدى أهمّية الإدارات المحلية في رصد الموارد المحلّية واستثمارها، والتخطيط المحلّي، وتوفير الدعم والتمويل من مصادر متنوّعة، وتحقيق التشاركية مع المجتمع، وتوفير شعور لدى المواطنين بأنهم مشاركون في إدارة شؤونهم من خلال مساهمتهم في إيصال أعضاء المجالس إلى مواقعهم، ومن ثمّ التعاون معهم، للانتقال من الدور الخدمي فقط، إلى الدورين الخدمي والتنموي".
كان القانون 107 مُعتمَداً لدى المجالس المحلية التي شكّلتها المعارضة خلال سيطرتها على الغوطة الشرقية مثلاً


في المقابل، وكنموذج من غياب، إن لم يكن انعدام، التطبيقات العملية للقانون "107"، تمكّنت "الأخبار" من إحصاء أكثر من 120 تدخّلاً من الحكومة المركزية في تشكيل مجالس الإدارة المحلية خلال عامَي 2020 و2021. ورَاوحت تلك التدخّلات بين إلغاء عضوية، وحلّ مجالس، وتشكيل مجالس جديدة، علماً أن هذه المجالس مُنتخَبة بالاقتراع المباشر من قِبَل الشعب بحسب القانون السوري. ولا يقتصر التدخّل على ذلك، وإنما يمتدّ إلى الوصاية المفرِطة على الإدارات المحلية، ومصادرة هوامشها، حتّى في ظل انتشار جائحة "كورونا" واختلاف الوقائع بين المدن، حيث كان من الصعب جدّاً على الإدارات العمل بحرّية؛ فعندما أصدرت مجموعة بلديات في ريف دمشق في شهر آب 2020، مثلاً، قرارات إدارية محلّية للتعامل مع انتشار الفيروس، من دون الرجوع إلى السلطة المركزية أو سلطة المحافظ، رفض الأخير القرارات وعمد إلى إلغائها، على رغم أنها تدْخل في صلب صلاحيات الإدارة المحلية. ويقول رئيس مجلس محلّي، فضّل عدم ذكر اسمه بسبب القيود على التصريحات، لـ"الأخبار"، إنهم يواجهون عدّة مشكلات في عملهم، أبرزها "الهيمنة المركزية التي تُعدّ كالسيف المُصْلَت على رقاب الأعضاء"، و"صلاحيات المحافظ التي تُضعف صلاحيات رؤساء وأعضاء الإدارات المحلية"، بالإضافة إلى "المرجعية الحزبية، ودورها الكبير في الاستحواذ على القرار". ويُضاف إلى ما تَقدّم "جهل العديد من أعضاء المجالس بالقانون، وبالتالي عدم معرفة صلاحياتهم وخوفهم من الإعفاء أو الإقالة أو التوجيه الحزبي بسحب الثقة في حال خرجوا عن طاعة القيادة الحزبية أو السلطة المركزية أو المحافظين، والذين يتدخّلون معاً في اختيار الأعضاء وتشكيل المجالس، وحتى إعداد القوائم الانتخابية". وفي هذا الإطار، يقول بشار مبارك إن "منظومة الحكم في سوريا بُنيت بشكل مركزي على المستويات: الحكومي والإداري والاجتماعي والاقتصادي، ما أدّى إلى قولبة المجتمع وتغييب رساميله عن خارطة الخطط ورادار الموارد، وتسبّب أيضاً بزرع بعض بذور الأزمة السورية الراهنة".