قبل ساعات من عقد لقاء جديد من لقاءات «مسار أستانا» في العاصمة الكازاخية نور سلطان، وعلى بُعد أيام قليلة من جلسة مجلس الأمن التي ستناقش تمديد التفويض الأممي لإدخال المساعدات الإنسانية إلى الشمال السوري، بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2533 الذي ينصّ على السماح بإدخالها عبر معبر وحيد هو معبر باب الهوى الحدودي بين تركيا وسوريا، تشهد منطقة إدلب تصعيداً عسكرياً لافتاً بدأ قبل نحو شهر واستمرّ حتى مساء أمس. إذ تُسيّر القوات الروسية عدداً كبيراً من طائرات الاستطلاع لرصد أهداف تابعة للمسلّحين، ثمّ يقوم الجيش السوري بضربها عبر قصف مدفعي مكثّف، في عمليات يتركّز أغلبها في منطقة جبل الزاوية وريف إدلب الجنوبي. والظاهر أن موسكو تريد، من وراء هذا التصعيد «المضبوط» استخدامه وسيلة للضغط على أنقرة في ملفَّين أساسيَّين: المساعدات الدولية عبر المعابر الحدودية، وتطبيق «اتفاق سوتشي 2020» عبر فتح الطريق الدولي حلب ــــ اللاذقية (M4) أمام الحركة المدنية بين منطقتَي ترنبة غرب سراقب، وعين الحور في ريف إدلب الغربي. وفي ما يتّصل بالملفّ الأوّل تحديداً، ترى موسكو في الآلية الدولية السابقة لإدخال المساعدات، والتي تنتهي صلاحيتها منتصف العام الحالي، «انتهاكاً» للسيادة السورية، مطالِبة بدلاً من ذلك باستخدام معابر تسيطر عليها الحكومة السورية حصراً، بينما ترفض باقي دول مجلس الأمن طلبها هذا.وبحسب مصادر مواكبة، فإن لدى الجانب الروسي، ومعه الدولة السورية، شروطاً أساسية للقبول بتمديد قرار مجلس الأمن رقم 2533، وعدم استخدام حق النقض (فيتو) ضدّه، على رأسها «مشاركة مندوبين رسميّين عن الحكومة السورية، أو مندوبين عن ثُلاثيّ أستانة: روسيا، إيران، وتركيا، في عملية توزيع المساعدات الدولية التي تدخل البلاد». وتوضح المصادر أن «الجانب الروسي يهدف من خلال هذه المطالب إلى مراقبة حركة المساعدات وطريقة توزيعها، بالإضافة إلى تكريس دور رسمي للحكومة السورية في العملية بالتعاون مع الأمم المتحدة، عبر إدخال المساعدات إلى دمشق أولاً، ثمّ توزيعها على المناطق كلّها بالتساوي، وإدخالها إلى إدلب عبر المعابر الآمنة التي تصل مناطق سيطرة الجيش بمناطق سيطرة الفصائل المسلّحة». وفي بداية الشهر الحالي، نوقش ملفّ المعابر الحدودية في دمشق، خلال لقاء أجراه المبعوث الرئاسي الروسي، ألكسندر لافرنتييف، مع الرئيس بشار الأسد. وبعدها بيوم واحد، اتّهم وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الولايات المتحدة بـ«افتعال الأزمة الإنسانية في سوريا بسبب سياسة العقوبات الأحادية... واحتلال قوات أجنبية لأراضٍ وموارد طبيعية ومناطق خصبة تابعة لسوريا».
يبدو أن موسكو تريد الضغط على أنقرة لمنعها من الانخراط في المشروع الأميركي حول المعابر


بناءً على ما تَقدّم، يبدو أن موسكو تسعى، من خلال التصعيد في إدلب، إلى الضغط على أنقرة لمنعها من الانخراط في المشروع الأميركي حول المعابر، بل ودفعها إلى الاشتراك في الحملة الروسية المقابِلة. ومع إدراك الروس أهمية معبر باب الهوى بالنسبة إلى الجانب التركي، فإنهم يسعون إلى إفهام أنقرة بأنهم لا يريدون إغلاق المعبر بقدر ما يريدون المشاركة في مراقبة دخول المساعدات عبره، وكيفية توزيعها. وفي خلفية المساعي الروسية، استشعار واضح لكون الموقف التركي مائلاً إلى الموقف الأميركي - الغربي بخصوص هذه القضية؛ فبعد زيارة السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، إلى تركيا الشهر الماضي، حيث تفقّدت معبر باب الهوى الحدودي برعاية تركية رسمية، فهمت روسيا الرسالة، وأطلقت صافرة التصعيد العسكري في إدلب، مطالِبةً تركيا بتنفيذ التزاماتها في ما يتعلّق بـ«اتفاق سوتشي»، أي إنشاء المنطقة الآمنة حول الطريق الدولي (M4)، وانسحاب المسلحين إلى شماله، وإعادة فتحه أمام المدنيين، ملوّحة بشنّ عملية عسكرية في حال لم يفِ الأتراك بالتزاماتهم. ولم تستفِق موسكو فجأة على التراخي التركي المزمن والمتزايد في تطبيق «اتفاق سوتشي» الموقّع منذ أكثر من عام، لكنها رفعت راية الاتفاق في مقابل أنقرة لمقايضتها بقضية المعابر الحدودية، ولحملها على الخروج من الدائرة الأميركية.
ولا يقتصر التوتّر في العلاقة الروسية ـــ التركية على إدلب، إذ ينظر الجانب الروسي بنوع من الارتياب إلى التقارب التركي ــــ الأميركي الحاصل منذ تسلّم إدارة الرئيس جو بايدن الحكم في الولايات المتحدة، وتأثير ذلك على الأوضاع في منطقة شرق الفرات. ويَتوقّع الروس، في هذا الإطار، أن يسعى الأميركيون لعقد اتفاق جديد بين الأتراك والقوى الكردية بما يحسّن من موقف أنقرة في المنطقة، أو أن يسمحوا للقوات التركية بتوسيع حضورها على حساب السيطرة الكردية، كما حدث في عملية «نبع السلام». ويُلاحظ في الفترة الأخيرة تكثيف للحراك الأميركي في منطقة شرق الفرات، على رغم الرفض الشعبي لوجود الولايات المتحدة، التي تسعى اليوم إلى التدخّل في مسائل كانت بعيدة عنها سابقاً، خصوصاً تلك المشتركة بين القوى الكردية والحكومة السورية والجانب التركي، والتي دائماً ما كانت روسيا تتولّى إدارتها، كمسألة انقطاع المياه والكهرباء، حيث سُجّلت أخيراً جهود أميركية للدخول على خطّ التفاوض بين «قسد» وتركيا حول هاتين المسألتين، بعدما كانت القضية برمّتها بيد الجانب الروسي حصراً.