دمشق | لم يكن اختيار الولايات المتحدة الأميركية منطقة التنف الواقعة في البادية السورية للإقامة فيها اعتباطياً، وإنّما جاء بعد دراسة دقيقة لخريطة المنطقة، حيث تقع القاعدة في مثلّث حدودي يطلّ على العراق والأردن من جهة، وعلى العمق السوري من جهة أخرى. كذلك، تتموضع القاعدة على الطريق الأقصر الذي يربط دمشق ببغداد، الأمر الذي يمكّن واشنطن من تحقيق مجموعة من الأهداف، سواءً الإشراف على المنطقة وما توفّره من قدرة على التحرّك السريع، أو التمركز في نقطة يمكن اعتبارها عثرة أمام إيران، وهو ما تَعدّه الولايات المتحدة الأكثر أهمية.الهجوم الأخير، الذي يبدو أنه من تنفيذ «غرفة عمليات حلفاء سوريا»، والتي تضمّ فصائل عدة، ردّاً على الغارات الإسرائيلية - الأميركية التي استهدفت أحد مواقعها قرب تدمر، جاء دقيقاً للغاية، حيث اخترقت الطائرات المسيّرة المنطقة التي تُحصّنها الولايات المتحدة بطول 55 كيلومتراً، ووصلت إلى القاعدة ونفّذت مهمتها بنجاح، الأمر الذي حمل مجموعة من الرسائل، أبرزها القدرة التي تمتلكها هذه القوات على كسر التحصينات الأميركية، بالإضافة إلى تأكيد استمرار المواجهة العسكرية الضاغطة، خصوصاً أن تلك الهجمات سبقتها أخرى مماثلة ضدّ مواقع للقوات الأميركية في مناطق شمال شرقي سوريا، أبرزها الهجوم الذي طال حقل العمر النفطي الذي تسيطر عليه واشنطن في مناطق انتشار «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) قرب دير الزور، في شهر تموز الماضي. وبينما ذكرت مصادر عدّة أن هجوم مساء الأربعاء انطلق من سوريا، أشارت أخرى إلى أنه كان مشتركاً، حيث انطلقت طائرتان من العراق، وثلاث طائرات من سوريا، في إشارة إلى الترابط الوثيق بين الفصائل التابعة لـ«محور المقاومة» في سوريا والعراق، والرافضة للوجود الأميركي في المنطقة. كذلك، تمهّد العملية الأخيرة للمرحلة المقبلة من المواجهة مع العدو الإسرائيلي، بما تتضمّنه من رسائل مباشرة بأن أيّ عمليات إسرائيلية أخرى ستُواجَه بالردّ، أيّاً كانت المناطق التي انطلقت منها، حتى لو كانت مناطق انتشار القوات الأميركية.
ويتزامن التصعيد العسكري الأخير مع تحرّكات سياسية وعسكرية على نطاقات عدّة، بينها الضغوط الروسية والتركية المستمرّة لإخراج القوات الأميركية من سوريا، حيث تَعتبر أنقرة أن الوجود الأميركي يحمي القوات الكردية، في وقت تعدّ فيه روسيا هذا الوجود عثرة أمام الحلّ السياسي الشامل للقضية السورية، وهو ما تُوافق عليه أيضاً دمشق التي ترى الاحتلال الأميركي غير شرعي، وتسعى إلى محاربته بشتّى الطرق، الأمر الذي عبّر عنه صراحة وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، خلال لقاء تلفزيوني، عندما سئل عن دعم دمشق لقوات مقاومة الأميركيين، بقوله إن «جميع الدول الحرّة تدعم مقاومة الاحتلال»، مضيفاً أن «لدينا الكثير من السُّبل التي ستُقنع الأميركيين بالرحيل عن بلادنا». كذلك، تتزامن الهجمات الأخيرة مع تغيّر التوجهات الأميركية في المنطقة، ونقل واشنطن تركيزها إلى جبهات أخرى تَعتبرها أكثر أهمية، مثل الصراع مع الصين، وهو ما بدا واضحاً بانسحابها من أفغانستان، وسحب قوّاتها المقاتلة من العراق، ما يعني بالمحصلة أن أيّ تكاليف إضافية لوجودها في سوريا من شأنها أن تدفعها إلى إعادة التفكير في جدوى هذا الوجود، خصوصاً بعد فشل مشاريع عديدة كلّفت الإدارة الأميركية المليارات، بينها برامج تدريب مقاتلين سوريين في كلّ من تركيا والأردن، لينتهي المطاف بتلك البرامج إلى فشل ذريع على الأرض.
هجوم التنف بعث برسائل مباشرة منها أن أيّ هجمات إسرائيلية ستواجَه بالردّ حتى لو انطلقت من مناطق انتشار الأميركيين


وأمام هذه المعطيات، يمكن تقسيم الوجود الأميركي في سوريا إلى شقَّين: الأوّل في مناطق انتشار «قسد»، والثاني في قاعدة التنف التي تضمّ مقاتلين سوريين تابعين لـ«مغاوير الثورة». وفي وقت يُظهر فيه الأكراد التزاماً أكبر تجاه واشنطن، مُنيت الأخيرة باختراقات عديدة في صفوف «المغاوير»، سواءً حالات الهرب المستمرّة للمقاتلين، أو احتضان مسلّحين سابقين في «داعش» في تلك المنطقة، بالإضافة إلى وجود مخيم «الركبان» الذي يضمّ نازحين سوريين يعيشون في ظروف غير إنسانية، ما حوّل المنطقة إلى ساحة غير مستقرّة دائمة السخونة. وتَنظر دمشق، ومعها موسكو، إلى الفصيل الذي تدعمه واشنطن في التنف على أنه تنظيم إرهابي، يشكّل استمرار وجوده مخاطر أمنية، وتتّجه الأنظار إليه بعد كلّ تفجير أو اعتداء في دمشق، مثل الأخير الذي استهدف باص مبيت لعمّال في منشأة الإسكان العسكري قرب جسر الرئيس في العاصمة، ما أدّى إلى مقتل 14 شخصاً وإصابة آخرين.
وإزاء تعنّت الأكراد، وفوضى منطقة التنف، يمكن اعتبار الهجمات العسكرية الضاغطة عبر قوّات غير نظامية أسلوباً فعالاً، قد يُلحق، مع استمراره، ضرراً بالغاً بالوجود الأميركي، من شأنه أن يدفع واشنطن إلى إعادة حساباتها، خصوصاً في ظلّ التغييرات في سياستها في المنطقة، عبر تخفيف القيود على دمشق من ناحية (الموافقة على تمرير الطاقة إلى لبنان عبر سوريا، وغضّ طرفها عن الانفتاح الأردني والإماراتي والتقارب العربي مع دمشق)، وميلها إلى إعادة الانخراط في الاتفاق النووي مع إيران، بعد أكثر من ثلاث سنوات على انسحابها منه في ظلّ حُكم الرئيس السابق، دونالد ترامب، من ناحية أخرى. وتتذرّع الولايات المتحدة الأميركية بمحاربة الإرهاب لضمان استمرار وجودها العسكري في سوريا، والذي تسعى من خلاله إلى فرض حالة ميدانية تستهدف تحقيق مكاسب على جبهات عدّة، أبرزها ضمان استمرار الضغط على أنقرة، والوقوف عثرة أمام إيران، وهو ما يبدو أنه يتغيّر، مع توسّع الدور الروسي في مناطق سيطرة «قسد»، ودخول علاقة الولايات المتحدة بتركيا في منعرجات ضيّقة قد تجعل الأولى مخيّرة بين صلاتها مع حليفتها في «الناتو» (تركيا) من جهة، ودعمها للأكراد من جهة أخرى، إضافة إلى عدم موثوقية القوات التي تدرّبها في منطقة التنف، ما يعني في المحصّلة اختلال التوازن الذي تحاول واشنطن فرضه، وارتفاع تكاليف هذا الوجود، وعدم تحقيقه للمكاسب المنتظرة.



إسرائيل تلوذ بالصمت: فَلْتتصدَّر أميركا الجبهة
التزم المسؤولون الإسرائيليون الصمت الكامل إزاء الهجوم الذي استهدف، ليل أوّل من أمس، قاعدة التنف الأميركية على المثلّث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، رداً على هجوم إسرائيلي - أميركي مشترك، استهدف مواقع لقوات «حلفاء سوريا». وفي الموازاة، ساد صمت شبه كامل وسائل الإعلام العبرية، التي اكتفى بعضها بنقل أخبار الحدث عن وسائل إعلام عربية وعالمية، ما يؤشّر - كما يحصل في حالات حسّاسة - إلى تشديد ما يُعرف بـ«المراقب العسكري» القيود على الإعلام. ويعزو مراقبون السبب وراء تشديد الرقابة، إلى أن «الحدث يتعلّق بالأميركيين والتحالف الدولي بشكل خاص»، فيما «لا تريد إسرائيل أن تبادر إلى تصدُّر الموقف، وهي تنتظر تبلور موقف أميركي واضح للبناء عليه». ويهمّ الإسرائيليين، وفق هؤلاء أن «تتصدّر واشنطن المشهد في مواجهة محور المقاومة وخصوصاً إيران، وفي هذا مصلحة استراتيجية للكيان».
لكن تشديد الرقابة لا يكون مُحكماً تماماً، حيث تشذّ عنه بعض وسائل الإعلام. وفي هذا السياق، اعتبر المحلّل العسكري في موقع «واي نت» الإلكتروني، رون بن يشاي، أن الهجوم «يرمز إلى تشديد في سياسة استخدام فيلق القدس في سوريا، وربّما غايته ممارسة ضغط على واشنطن أيضاً، في سياق المحادثات حول العودة إلى الاتفاق النووي». وقال بن يشاي إن «مجرّد شن هجوم مباشر ضدّ قاعدة التحالف الغربي في سوريا، الموجودة من أجل محاربة داعش في الأساس، يسلّط الضوء على عدّة جوانب من تغيّر طبيعة الحرب في سوريا بين الجهات المختلفة، وضمن ذلك أنماط الهجمات الإسرائيلية في إطار المعركة بين حربَين»، مشيراً إلى أن «قاعدة التنف بقيت خارج الحرب في سوريا، لأن القوات فيها عملت ضدّ داعش في الأساس، ولأن هذه القاعدة بعيدة من قواعد الميليشيات الموالية لإيران». وأضاف أن «الليلة الماضية كانت المرّة الأولى التي تهاجم فيها هذه القاعدة. وعلى ما يبدو، فإن وراء ذلك هجمات (إسرائيلية) عدّة في الأشهر الأخيرة». وتابع بن يشاي أنه «إذا كان سلاح الجو الإسرائيلي أو قوات خاصة إسرائيلية قد شنّت هجمات من منطقة التنف لاستهداف بطاريات صواريخ مضادة للطائرات وقواعد الميليشيات الموالية لإيران في الأراضي السورية، فإن في الإمكان التقدير أن هذا الأمر نُفّذ انطلاقاً من اعتبارات لدى المهاجم. وذلك لأن الدفاعات الجوية السورية في الصحراء السورية قليلة، وتلك الموجودة هناك قديمة ومن صنع روسي وليس بإمكانها تهديد الطائرات الإسرائيلية بصورة جدّية». واعتبر بن يشاي أنه «على ما يبدو أن الإيرانيين أدركوا جيداً هذا الوضع. ولكن خلافاً للماضي ، قرّروا شنّ الهجوم على قاعدة التنف بواسطة طائرات مسيّرة، مثلما فعلوا قبل سنتين في السعودية».
(الأخبار)