لم يكن عمر مدحت الصالح، المولود في عام 1967، إلّا 15 عاماً، عندما اندفع في 14 شباط 1982، مع أترابه من أبناء مجدل شمس للمشاركة في الإضراب الشامل الذي أعلنه أهالي الجولان السوري المحتلّ تحت شعار «المَنيّة ولا الهوية»، في رفض لقرار الضمّ الصادر في 14 كانون الأول 1981. مرّت خمسة أشهر على العصيان الشامل، قبل أن يتوجّه مدحت لزيارة سوريا لمدّة يومين، ويعود بعدهما إلى قريته، حيث تمّ اعتقاله لأوّل مرّة لعدّة أشهر. معمودية الاعتقال الأولى جعلت الفتى يكبر بسرعة، إذ كانت ثلاث سنوات كافية ليُنشئ ابن الثامنة عشرة ورفاقه بشر المقت وعصمت المقت خلية مقاومة، شكّلت النواة الأولى لنشوء حركة المقاومة السرّية في الجولان. حركةُ انضمّ إليها لاحقاً عدد من الشباب، لتنفّذ مجموعة عمليات أمنية عبر نزع الألغام من الحقول ونقلها إلى مكان آخر، أو قطْع الأسلاك الكهربائية والهاتفية، أو حرق مستودعات تابعة لجيش الاحتلال وحقول المستوطنات ومخازنها، إضافة إلى رفع الأعلام السورية وكتابة المناشير والتحريض. وعلى خلفية تلك المهمّات، تمّ اعتقال الدفعة الأولى من الأسرى، وهم عبد الشاعر وصدقي المقت وهايل وعصام أبو زيد، وأسعد كنج ومطيع ومالك أبو صالح، وسيطان وعاصم الولي، وأيمن وزياد أبو جبل (بلغ عدد أسرى الجولان منذ عام 1985 إلى الآن، قرابة 250 أسيراً)، الذين انخرطوا جميعاً في نشاط الحركة الوطنية الأسيرة، وخاضوا مع أبطال فلسطين تجربة اعتقالية ونضالية مهمّة، عبر مشاركتهم في المواجهات داخل المعتقلات وفي الإضرابات المفتوحة عن الطعام، ليسقط منهم شهداء داخل الأسر، كالشهيدَين هايل أبو زيد وسيطان الولي، وتُسجّل من بينهم أعلى سنوات اعتقال كالأسير المحرَّر صدقي المقت الذي أمضى ما مجموعه 33 عاماً في الأسر. كان مدحت الصالح وعصمت المقت أوّل أسيرَين من حركة المقاومة الشابّة في 11/08/1985. وبعد جولات من التحقيق والتعذيب، أصدرت محكمة الناصرة المركزية حكماً بسجن مدحت 12 عاماً، أمضاها متنقّلاً بين سجون الجلمة والرملة وشطة وعسقلان، حيث تعرّف على عدد كبير من الأسرى الفلسطينيّين والعرب ومن بينهم سمير القنطار. وفي 25/02/1997، خرج إلى قريته مجدل شمس محرَّراً، حيث نشط وآخرون من رفاقه المُحرَّرين في متابعة قضية الأسرى. وفي 16 نيسان 1998 انقطعت أخبار مدحت فجأة، ليتبيّن بعد أسبوع أنه وصل إلى دمشق بعد تجاوزه الأسلاك الشائكة وحقل الألغام.
بقي مدحت على تواضعه، في منزل مستأجر بسيط لا يُشير إلى كون قاطنه نائباً في البرلمان


النائب المقاوم
احتُضن الأسير المحرَّر من قِبَل القيادة السورية، وانتُخب عضواً في مجلس الشعب السوري، من دون أن يغيّر ذلك من فاعليته على صعيد قضيتَي الأسرى والجولان. بقي مدحت على تواضعه، في منزل مستأجر بسيط لا يُشير إلى كون قاطنه نائباً في البرلمان، يذهب إلى مجلس الشعب بالباص، ويتنقّل في دمشق عبر سيّارات الأجرة. وما إن أنهى دورتَين متتاليتَين حاملاً صفة ممثّل الشعب عن دائرة القنيطرة، حتى تمّ تكليفه برئاسة مكتب الجولان في الحكومة السورية، ليبقى بالهِمّة نفسها متنقّلاً ما بين بيروت حيث يضع على طاولة المقاومة أسماء رفاقه الأسرى مطالباً بإدراجهم على قوائم عمليات التبادل، ويطلّ على وسائل الإعلام اللبنانية رافعاً صوت الجولان ومشاركاً رفاقه الأسرى اللبنانيين المحرَّرين اعتصاماتهم وتحرّكاتهم، وما بين سوريا حاملاً وجع أهله إلى كلّ قرية ومدينة. ظلّ مدحت على هذه الحال، إلى ما قبل عدّة سنوات، حيث أعلنت سلطات الاحتلال اعتقال مجموعة من شباب مجدل شمس، ووجّهت إليهم اتهامات بالتواصل مع «مندوب بشار الأسد إلى الجولان وضابط المخابرات السورية ومنسّق العمليات مع الحرس الثوري الإيراني وحزب الله»، ليتبيّن أن المقصود بذلك هو الصالح، رفيق درب الشهيد سمير القنطار. فاللقاء الذي كان جمعه صدفة بالأخير داخل المعتقل، تحوّل في سوريا إلى ضرورة، بفعل تداخل المهامّ في ساحة واحدة، بدءاً من أطراف القنيطرة، مروراً بقرى الجولان الأربع، وصولاً إلى الجليلَين الأعلى والأسفل.

الرحلة الأخيرة إلى الجولان
غادر النائب السابق والأسير المحرَّر، منتصف الشهر الماضي، منزله في دمشق، تاركاً خلفه زوجته هدية أبو زيد وابنه جولان (17 عاماً) وابنته راما (15 عاماً)، متوجّهاً كعادته إلى منزل يقوم بتشييده في قرية عين التينة القريبة من مجدل شمس المحتلّة، حيث أراد منزلاً سكناً على بيت صديقَيه الأخوَين بشر وصدقي المقت في الجهة المحتلة من المنطقة. ظنّ مدحت أن عمله الحكومي سوف يعطيه حصانة من استهدافه كمقاوم، إلّا أنه لم يكد يصل «تلّة الصراخ»، التي يقف على ضفّتَيها المحتلّ والمحرَّر أهل الجولان، يفصل بينهم الشريط الشائك، ليتبادلوا السلامات والتحيّات عبر مكبّرات الصوت، حتى لاقى مصرعه بإطلاق قنّاص إسرائيلي النار مباشرة عليه، في عملية استهدفت تمرير رسالة إلى كلّ مَن يتعاون مع إيران، بأنه «سينضمّ عاجلاً أو آجلاً إلى القائمة»، على حدّ قول الكولونيل (احتياط) كوبي ماروم، الخبير في شؤون القطاع الشمالي، في حديث إلى محطّة «103 أف أم». لاقت مجدل شمس الشهيد الصالح بتكريم رمزي موحّد ومهيب، زحف خلاله إلى تقديم واجب العزاء به في منزل ذويه في الأرض المحتلّة، المُحبّون من كلّ قرى الجولان، ومعهم جاءت وفود فلسطينية من مناطق مختلفة في القدس واللّد ويافا والجليل والمثلث وصولاً إلى النقب، ليُزفّ مدحت على أنه شهيد فلسطين أيضاً.

* أسير لبناني محرّر