الحسكة | يعمل أحمد (16 عاماً) أكثر من نصف يوم في أحد مقاهي مدينة الحسكة، للحصول على ما يسدّ جزءاً من حاجة عائلته المهجّرة من مدينة رأس العين، بعد أن خسرت منزلها هناك نتيجة القصف الجوّي التركي على حيّ الصناعة. يقول أحمد، لـ«الأخبار»، إنه توقّف منذ عامين ونصف عام تقريباً عن الذهاب إلى المدرسة، وبات العمل أساس حياته لمساعدة والديه في تأمين ثمن استئجار المنزل الذي يقطنونه في إحدى ضواحي الحسكة. ويُعدّ أحمد واحداً من مئات الفتيان الذين نزحوا مع عائلاتهم من رأس العين، جرّاء عملية «نبع السلام» التركية، سواءً إلى مخيّمَي رأس العين والطلائع، أو إلى الحسكة، حيث انضمّ معظمهم إلى قافلة المتسرّبين من التعليم.كان أبو صالح، ابن مدينة رأس العين، والذي سيطرت الفصائل المسلّحة على منزله وممتلكاته بتهمة موالاة الحكومة السورية، يُقدّر أن نزوحه لن يتجاوز أشهراً معدودة، لكن ها هو اليوم يقضي عامه الثالث بعيداً عن مدينته. تختلط المشاعر لدى الرجل، أثناء حديثه إلى «الأخبار»، ما بين التشاؤم بإمكانية خروج المحتلّين من المدينة بعد تجربة «لواء اسكندرون»، والتفاؤل بعودته وإن كانت بعيدة، نتيجة تسوية سياسية أو عسكرية. ويرى أبو صالح أن «أيّ تفكير بالعودة حالياً يُعدّ انتحاراً»، مستذكراً محاولة أحد أصدقائه الرجوع، حيث تمّ القبض عليه وسجنه وتعذيبه، ثمّ الإفراج عنه بعد وساطات عشائرية، تضْمن هجْره المدينة نهائياً، وذلك بتهمة «العمالة للحكومة السورية». ويؤكد أبو صالح أن «التعويل الوحيد هو على الجيش السوري لإنهاء الواقع الحالي، وتحقيق الاستقرار النهائي في المدينة وأريافها، ولو بعد حين».
ولا يبدو حال الذين قرّروا البقاء في مدينة رأس العين وأريافها، أفضل من حال النازحين، في ظلّ استمرار الصراع الدامي بين الفصائل المسلّحة على النفوذ. وعلى رغم مرور نحو عامين ونصف عام على الاحتلال التركي للمدينة، إلّا أن معظم أعضاء «المجلس المحلي»، المشكّل من قِبَل السلطات التركية، يخشون الاستقرار فيها، ويغادرون مساءً للمبيت في تركيا، والعودة إلى رأس العين صباحاً، نتيجة الأوضاع الأمنية المتردّية، والمخاوف من اندلاع اشتباكات في أيّ لحظة. كما أن المدينة وأريافها غارقة في أغلب الأحيان في الظلام الدامس، نتيجة عدم وجود مولّدات كهربائية، وتكرّر الخلافات مع «قسد» حول ضخّ المياه من محطّة علوك مقابل تزويد رأس العين بالكهرباء، والتي أدّت إلى أزمات متكرّرة، وانحسار الحركة التجارية بشكل كبير. كلّ ذلك جعل غالبية السكان يعزفون عن العودة إلى منازلهم، ولذا، تكاد أعداد العائدين لا تُذكر، فيما كثيرون لا يُبدون رغبة في الرجوع أصلاً. ووفق إحصاءات أجراها «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق شؤون اللاجئين»، فإن «نحو 150 ألف مدني تركوا منازلهم خلال الهجمات العسكرية التركية في ما سُمّي معركة نبع السلام»، قبل أن يعود عدد قليل منهم إلى المدينة، بعد انتهاء المعارك منذ نحو عامين ونصف عام.
لا يبدو حال الذين قرّروا البقاء في مدينة رأس العين وأريافها أفضل من حال النازحين


وفي المقابل، قامت السلطات التركية بنقل المئات من عوائل المسلّحين الذين كانوا لاجئين داخل الأراضي التركية، إلى مدينة رأس العين وأريافها، وأسكنتهم في منازل أهالي المدينة الأصليين، بينما غالبيّة تلك العوائل متحدّرة من دير الزور وإدلب وحماة، وهو ما شكّل حاجزاً إضافياً أمام أيّ محاولة للعودة. وفي هذا السياق، تقول أم محمد، التي تقطن اليوم في رأس العين، في اتصال مع «الأخبار»، إن «المدينة تغصّ بالسكان، لكنّهم في غالبيتهم ليسوا من سكّانها الأصليين»، مشيرة إلى أن «نحو ربع الأخيرين عادوا إلى المدينة بعد انتهاء المعارك فيها، وما تبقّى هم وافدون من محافظات سورية متعدّدة». وتلفت إلى أن «معظم من عادوا يعيشون هاجس الموت والاختطاف، في ظلّ انعدام الأمان»، وأنهم «رجعوا لهدف وحيد، هو المحافظة على ما تبقّى من ممتلكاتهم». لكنّ أم محمد تعتبر أن «معظم السكّان يعرفون أن الواقع الحالي طارئ»، وأن «المدينة لن تبقى فيه إلى الأبد».