علامتان هامّتان ميّزتا ظاهرة العواصف الغبارية التي ضربت سوريا ربيع هذا العام: الأولى كان ارتفاع عددها مقارنة بالسنوات السابقة، إذ بحسب ما تَذكر البيانات الرسمية، فإن عدد الأيام التي شهدت هكذا عواصف زاد بنسبة 450%، مقارنة بنظيراتها في العام الماضي؛ أمّا الثانية فهي دخول العاصمة دمشق ضمن دائرة التجمّعات السكنية التي اجتاحتها تلك العواصف، في تطوُّر ينذر، بحسب رأي علماء المناخ والبيئة، بخطورة التَغيّرات المناخية التي باتت تتهدّد النظام البيئي في سوريا، لا سيّما في ضوء الأضرار البيئية الهائلة الناجمة من الحرب. ولربّما هي المرّة الأولى التي يجري فيها استنفار الطواقم الطبّية في المحافظات الشرقية بهذه الكثافة، حيث كانت سيارات الإسعاف تتجوّل بين الأحياء السكنية لنقل المصابين بحالات الاختناق إلى المستشفيات والمراكز الصحية، فيما تحدّثت الأنباء، في أيار الماضي، عن وفاة عشرة أشخاص في المنطقة الشرقية، جرّاء إحدى العواصف الغبارية الشديدة.لاحقاً، أضاف باحثون ينتمون إلى أربع مؤسّسات علمية في البلاد، ويعكفون ضمن برنامج وطني على دراسة مستجدّات التغيّرات المناخية والعواصف الغبارية وأثرها على الموارد الطبيعية والبشرية، سبباً آخر يدعو إلى استباق ما قد تحمله التغيّرات المناخية من مفاجآت قادمة. هذا السبب يكمن، وفق ما تُبيّنه ورقة بحثية لـ«المديرية العامّة للأرصاد الجوّية» اطّلعت عليها «الأخبار»، في أن بعض العواصف التي تمّ رصدها العام الجاري، كانت ذا منشأ محلّي، على خلاف السنوات السابقة. فمثلاً، العاصفة الغبارية التي شهدتها البلاد في الـ23 من أيار الفائت، كانت منابعها من شرق مدينة حسياء في محافظة حمص، وشرق بحيرة الجبول في محافظة حلب، وجنوب بحيرة الأسد في محافظة الرقة. أمّا الحمولة الأكبر من غبار العاصفة التي سُجّلت في الـ15 من أيار أيضاً، فكانت من شرق القلمون في محافظة ريف دمشق، ومن منطقة لا تبعد عن الأوتوستراد الدولي سوى 40 كم فقط. وفي العاصفة الثالثة، التي وقعت في 23 نيسان، انتقل الغبار بعكس عقارب الساعة من مناطق البادية، وتحديداً من بادية السويداء، ليصل إلى المنطقة الجنوبية.

انتقام الطبيعة
أربعة أسباب رئيسة تُحدّدها «المديرية العامّة للأرصاد الجوّية» لظاهرة المنشأ المحلّي للعواصف الغبارية، أوّلها يتمثّل في قلّة الهطولات المطرية لموسمَين متتاليَين، حيث سَجّلت تراجعاً في بعض المناطق بنسبة 50%، الأمر الذي تسبّب في خلق تربة جافة ومفكّكة، خصوصاً في البادية، حيث تؤدّي العواصف الغبارية إلى نقْل ملايين الأطنان من موادها سنوياً، تبعاً لتقديرات «المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي الصحراوية». أمّا العامل الثاني، فيكمن في ظاهرة الاحتباس الحراري؛ إذ تشير الدراسات المحلّية إلى أن ثمّة زيادة وسطية في درجات الحرارة مقدارها 0.5%، وهذا كانت له تأثيراته في الجفاف وأنماط الهطول المطري، إضافة إلى تَوسّع مناطق التصحّر وزيادة احتمالية العواصف الغبارية.
للمرّة الأولى، يتمّ إسقاط مسار العواصف الغبارية في سوريا على خرائط جغرافية


وإذا كان العاملان الأوّل والثاني نتيجة لتَغيّرات المناخ، فإن العامل الثالث هو من صُنع الإنسان، ويتمثّل في التعدّيات الحاصلة على الغطاء الحراجي، والنشاط البشري وما يسبّبه من تأثيرات سلبية على مكوّنات النظام البيئي. وتتّضح تأثيرات هذا العامل خصوصاً في محافظة السويداء، التي تحوّلت بعض مناطقها إلى منشأ للعواصف الغبارية، وذلك بفعل عمليات القطع المستمرّة للأشجار الحراجيّة في بيئة تُعرف بتربتها البركانية سريعة التسخين. إلّا أن حسان قطنا، وزير الزراعة، يضيف إلى ما تَقدّم مظاهر أخرى، منها «ما خلّفته حركة الآليات الثقيلة للمجموعات المسلّحة ولقوات الاحتلال الأميركي في المناطق التي تتواجد فيها بشكل غير شرعي في سوريا، إضافة إلى شقّها طرقاً عديدة في البادية السورية، وتالياً تدميرها للغطاء النباتي»، فضلاً عن «قيام سكّان المحافظة بشراء أعداد كبيرة من الأغنام لتربيتها، لكن وبسبب انخفاض أسعارها في الأسواق المحلية، تمّ إرسال كميات كبيرة منها إلى مناطق بادية المحافظة بغية تأمين مراعٍ لها، وهذا ما تسبّب تدريجياً بانحسار الغطاء النباتي».
وبالانتهاء إلى العامل الرابع، فهو وفقاً لنتائج الباحثين، يتعلّق بزيادة النشاط الشمسي بعد سنوات من ضعفه، بالتوازي مع موسم الجفاف.

آلاف المتضرّرين
للمرّة الأولى، يتمّ إسقاط مسار العواصف الغبارية في سوريا على خرائط جغرافية، عبر الاستعانة بنوعَين من صور الأقمار الفضائية، وذلك بُغية تحديد حجم المساحات المتضرّرة وما تحتويه من تجمّعات سكانية، والأهمّ عدد الأشخاص المتضرّرين. وتُظهر مخرجات البرنامج، الذي تعمل عليه فرق بحثية من وزارة الإدارة المحلية و«المديرية العامّة للأرصاد الجوّية» و«هيئة البحث العلمي» و«هيئة الاستشعار عن بُعد»، أنه خلال العاصفة الأولى في العام الحالي، والتي يعود تاريخها إلى 7 نيسان، وصل عدد التجمّعات المتضرّرة إلى حوالى 627، وبمساحة تُجاوز 30 ألف كم2. أمّا في العاصفة الثانية المؤرَّخة في الـ16 من أيار، فقد بلغ عدد تلك التجمّعات حوالى 65. وبعد سبعة أيّام فقط عليها، وقعت العاصفة الثالثة، وهي الأكبر هذا العام، لتُلحق أضراراً بحوالى 314 تجمُّعاً، على مساحة تُقدَّر بأكثر من 57.8 ألف كم2، فيما بلغ عدد المتضرّرين منها حوالى 698.5 ألف شخص. أمّا العاصفة الرابعة، والتي وقعت في جنوب البلاد في 2 حزيران، فقد أضرّت بأكثر من 288 تجمّعاً، على مساحة تُقدَّر بحوالى 39.6 ألف كم2، علماً أن التقديرات نفسها تشير إلى أن العاصفة الغبارية التي حدثت في 7 أيلول 2015، تسبّبت بضرر لحوالى 3356 تجمّعاً، وما يقرب من 11 مليون شخص. ومن هنا، يستنتج وزير الزراعة أن الخرائط تُظهر أن الأضرار باتت تصل إلى مناطق لم تكن تنتشر فيها العواصف الغبارية، التي أصبحت تمتدّ إلى المحيط القريب، قبل أن تنتقل لاحقاً إلى دول مجاورة، وتالياً فإن هناك حاجة إلى تعاون إقليمي لرصد الظاهرة، ومحاولة التخفيف من تأثيراتها السلبية على صحّة الإنسان من جهة، وعلى الموارد الطبيعية والزراعية من جهة ثانية.