في إطار سعيها لتوحيد المناطق الواقعة تحت سيطرتها في الشمال السوري، وإبقائها مرتبطة بها حتى في حال التوصّل إلى حلّ سياسي ينهي حالة الانقسام القائمة حالياً، تعمل تركيا على صناعة مظلّة دينية جديدة تجمع «هيئة تحرير الشام»، مع «المجلس الإسلامي»، المتشكّل من مزيج من «الإخوان» والسلفيين، ويرأسه - للمفارقة - رجل دين صوفي. ولا تخرج تلك المساعي، وقَبْلها تعيين المذكور في منصب مفتٍ في تلك المناطق، من سياق اشتغال تركيا على توسيع نفوذها بأداة السلطة الدينية، سواءً عبر نشاطات «ديانيت» التي باتت موازية للاستخبارات، أو عن طريق إعادة بناء خطوط «التبعية الدينية» في شمالي سوريا
بعد أيام من إلغاء منصب المفتي في سوريا، والذي يعود إلى عصر الخلافة العثمانية، وتعزيز دور المجلس العلمي الفقهي ومنحه صلاحيات الإفتاء، في شهر تشرين الثاني من العام الماضي، سارعت المعارضة السورية إلى الإعلان عن تعيين الشيخ أسامة الرفاعي، الذي يرأس «المجلس الإسلامي» المعارِض منذ تأسيسه عام 2014، «مفتياً للجمهورية العربية السورية»، بهدف استعمال هذه الصفة في الميدان السياسي. وقد أعادت تلك الخطوة تسليط الضوء على أعمال المجلس الذي بقي نحو ثلاث سنوات بعد تأسيسه في الظلّ، قبل أن يتردّد اسمه خلال عمليات اقتحام القوّات التركية الأراضي السورية، واحتلالها مناطق عدّة شمالي حلب والرقة، كما في «درع الفرات» عام 2017، و«غصن الزيتون» عام 2018.
وتَكشف نظرة إلى تكوين المجلس الذي أُعلن عنه في إسطنبول التركية على أنه «مرجعية إسلامية لأهل السنة وليس جسماً سياسياً»، تناقضاً كبيراً بين ما هو معلَن وما جرى العمل عليه على أرض الواقع، إذ يتكوّن المجلس فعلياً من ثلاثة تشكيلات رئيسة: جماعة زيد التي يترأّسها الرفاعي نفسه (نسبة إلى مسجد زيد بن ثابت في دمشق) وهي جماعة صوفية؛ و«رابطة العلماء السوريين» التابعة لجماعة «الإخوان المسلمين»؛ و«هيئة الشام» التي تمثّل التيّار السلفي، وكلّها تشكيلات ترتبط بأذرع مسلّحة على الأرض في مناطق نفوذ تركيا. وأمام هذا الخليط، مثّل الرفاعي نموذجاً مناسباً لتصدُّر المشهد؛ كونه، وبسبب انتمائه إلى الصوفية ولتاريخه الوسطي، يشكّل غطاءً للمجلس يمكن تسويقه بغضّ النظر عن بقيّة المكوّنات، فضلاً عن حقيقة انفتاح الرجل على السلفية، ومتانة علاقته بـ«الإخوان».
ويتلقّى «المجلس الإسلامي» بشكل عام، ومفتيه على وجه الخصوص، دعماً تركياً مباشراً، في مقابل أدائه مهمّةً تسويقية لصالح أنقرة، وهو ما يمكن رصده بوضوح في سجلّ نشاطاته التي يقوم بنشرها بشكل دوري عبر موقعه الرسمي، حيث تتضمّن «تشبيكاً» مع أنشطة «ديانيت» (رئاسة الشؤون الدينية التابعة لرئاسة الجمهورية التركية) التي وضعت يدها، منذ اقتحام القوّات التركية مناطق في الشمال السوري، على المساجد والدعاة والخطباء، وقامت بتوظيفهم بعد إخضاعهم لدورات تدريبية عديدة. وبعدما كانت «ديانيت» تنفّذ خططها في الشمال السوري بشكل مباشر منذ عام 2017 حتى عام 2021، ظهر تَحوُّل في نهجها، تَمثّل في إبراز المجلس كوسيط يمثّل رأس الهرم الديني الذي تقوم ببنائه، على أن يتبع السلطة الدينية التركية، وهو ما يبدو أن أنقرة اختارته بهدف ضمان إحكام سيطرتها على تلك المناطق.
حتى الآن، نجحت تركيا في مدّ ذراعها الدينية في الشمال السوري


وحتى الآن، نجحت تركيا في مدّ ذراعها الدينية في الشمال السوري، مستفيدة في ذلك من عوامل تاريخية تعود إلى ارتباط الصوفية في سوريا بالصوفية التركية، والعلاقة التي تجمع «الإخوان المسلمين» في سوريا بحزب «العدالة والتنمية» التركي، التابع بدوره لـ«الإخوان»، بالإضافة إلى العلاقة المتينة التي بنتها أنقرة مع جماعات سلفية قدّمت لها الدعم المالي والعسكري في سوريا، وحوّلتها إلى أداة عسكرية لصالحها في الميدان، بما يشمل «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة) التي تسيطر على إدلب، وتمثّل في الوقت الحالي قوّة عسكرية ودينية موازية لفصائل «درع الفرات» و«غصن الزيتون» و«المجلس الإسلامي». وفي هذا السياق، تَكشف مصادر متقاطعة، لـ«الأخبار»، أن ثمّة جهوداً تركية في الوقت الحالي لصناعة مظلّة تجمع المجلس بالهيئة، بهدف التمهيد لتوحيد مناطق سيطرة تركيا (إدلب ودرع الفرات وغصن الزيتون)، وفق مخطّط يرمي في النهاية إلى تشكيل جسم معارض موحّد. غير أن هذه الجهود تواجه تحدّيات عديدة، أبرزها حالة التناحر الفصائلية القائمة، والتي تنسحب على الهيئات الشرعية أيضاً، فيما يبدو أن تركيا تعمل جاهدة لإيجاد حلّ لها.
وإلى جانب إحكام تركيا سيطرتها على الحياة الدينية في الشمال السوري، ثمّة عمل موازٍ يتعلّق بإعادة تشكيل الوعي في تلك المناطق، عبر التركيز على نوستالجيا متّصلة بمفهوم «الأمّة»، المرتبط بالخلافة الإسلامية، والذي يَنظر إلى الإمبراطورية العثمانية على أنها تمثّل آخر «وعاء وحدوي حفظ كيان الأمّة الإسلامية قبل أن يُستبدل به مفهوم الأقطار التي رسمها الاستعمار». ومن شأن ذلك تنمية الاعتقاد بضرورة إلغاء الحدود القطرية، ومواجهة التيارات القومية، وتثبيت التبعية الدينية لتركيا، عاصمة «الخلافة»، خصوصاً أن «استعادة الأمّة» تُعدّ أحد أبرز أهداف «الإخوان المسلمين».
بشكل عام، يمكن تلخيص المشهد الديني القائم حالياً في الشمال السوري بأنه منقسم إلى شقَّين: الأوّل في إدلب، حيث تسيطر «هيئة تحرير الشام» التي تتحكّم بجميع مفاصل الحياة، وتعمل على إنشاء أجيال سلفية جهادية جديدة تَنظر إلى تركيا التي تأتمر «الهيئة» بأوامرها، نظرة شكر وعرفان كونها توفّر لها مظلّة حماية؛ والثاني في ريفَي حلب والرقة حيث تغلغلت تركيا في الحياة الدينية، وأحكمت السيطرة على جميع معالمها، بدءاً بالمساجد وليس انتهاءً بالمعاهد الشرعية ومراكز تدريس الأطفال وتحفيظ القرآن، الأمر الذي تسعى من خلاله إلى أن تُبقي هذه المناطق مرتبطة بها، حتى وإن تمّ التوصُّل إلى حلّ سياسي ينهي حالة الانقسام الميداني القائمة حالياً.