في وقت تُواصل فيه موسكو وطهران جهودهما لتقريب وجهات النظر بين دمشق وأنقرة، تمهيداً لإعادة تطبيع العلاقات السورية - التركية، وبالتالي إعطاء دفْعة قوية لمسار حلحلة الأزمة السورية، تعود واشنطن، التي ظلّت خلال الفترة القصيرة الماضية تعمل مِن تحت الطاولة، لتتصدّر المشهد، عبر محاولتها توحيد مجموعة من الأطراف المناوئة لدمشق، بهدف ضرب الجهود الروسية - الإيرانية وإفشالها (ضمن محور أستانة). وتستهدف الولايات المتحدة، من خلال ذلك، إجهاض أيّ محاولة لكسْر العزلة عن سوريا وإعادتها إلى لعب دورها على الساحة، وإبقاء الوضع القائم في هذا البلد على ما هو عليه، رغبةً منها في تحصين وجودها العسكري في الشمال الشرقي، وضمان بقائها هناك أطول فترة ممكنة
في رسالة سياسية مباشرة إلى روسيا، دعت الولايات المتحدة الأميركية، وبشكل عاجل، إلى عقْد اجتماع في جنيف السويسرية، المدينة التي كانت تحتضن اجتماعات «اللجنة الدستورية» المجمَّدة حالياً على خلفيّة طلب دمشق نقل مقرّ جلساتها إلى مدينة أخرى، إثر تخلّي سويسرا عن حيادها وانضمامها إلى الحلف الغربي المناوئ لموسكو. الاجتماع الذي يُعتبر استكمالاً لمسارٍ قادتْه واشنطن خلال السنوات الماضية تحت مسمّى «أصدقاء الشعب السوري»، وتمّ تهميشه بعد تصدُّر مسار «أستانا» الذي تَقوده موسكو المشهد السوري، ونجاح هذا الأخير في وقف الأعمال القتالية وتمهيد الأرض للعمل السياسي، جاء هذه المرّة مدفوعاً بضغوط أميركية واضحة لإفشال التقدُّم الجديد لـ«أستانا»، على صعيد العلاقات السورية – التركية من جهة، والجهود المبذولة لإعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية من جهة أخرى، وهو ما أعلنت الولايات المتحدة رفضها الواضح له. وسبق الاجتماعُ الذي يضمّ مبعوثين من مجموعة دول وأطراف (معظمها معارضة لدمشق)، من بينها الاتحاد الأوروبي وقطر وبريطانيا، بالإضافة إلى ممثّلين عن «جامعة الدول العربية» والسعودية ومصر وتركيا ودول أخرى، اجتماعَ الجمعية العمومية للأمم المتحدة التي ستنعقد في شهر أيلول الحالي، ما يفسّر استعجال واشنطن عقد ذلك اللقاء، والذي يهدف وفق مصادر سورية معارضة تحدّثت إلى «الأخبار»، إلى التوصّل إلى موقف واحد وواضح بين الدول المناوئة لمسار «أستانا»، بعدما كثُر تباين مواقفها خلال الفترة الماضية.
اللافت في الجهود الأميركية السياسية، ارتباطها بأخرى ميدانية تهدف إلى إعادة إحياء مساعٍ قديمة انتهت إلى الفشل، لتوحيد الموقف الكردي والتوصّل إلى اتفاق بين «حزب الاتحاد الديموقراطي» الذي يقود «الإدارة الذاتية» والمدعوم أميركياً، و«المجلس الوطني الكردي» المدعوم تركياً. وأوكلت واشنطن هذه المهمّة إلى مبعوثها الجديد إلى مناطق «قسد»، نيكولاس جرانجر، خلَفاً للمبعوث الأميركي السابق، ماثيو بيرل، حيث تُعوّل الولايات المتحدة على قدرة جرانجر، الذي يتمتّع بخلفية عسكرية ويمتلك خبرة سياسية على خلفيّة عمله الطويل في الشرق الأوسط وباكستان، على تحريك الحوارات الكردية – الكردية. وكان تعثَّر مسار هذه الحوارات بسبب رفض أنقرة التعامل مع «حزب الاتحاد الديموقراطي» الذي تَعتبره امتداداً لحزب «العمال الكردستاني» المحظور في سوريا، ورفضٍ مقابِل من «الاتحاد الديموقراطي» للانخراط في نقاش جادّ مع «المجلس الوطني» المدعوم تركياً. ووفق مصادر كردية تحدّثت إلى «الأخبار»، تُبدي واشنطن رغبة كبيرة في بعْث المسار التفاوضي، وذلك باستغلال الضغوط الروسية المتواصلة على «قسد»، والمندرجة في إطار جهود موسكو لتطبيع العلاقات السورية - التركية، حيث تُمثّل «التفاهمات الأمنية» إحدى أبرز ركائز التطبيع، ولذا تدور النقاشات، راهناً، حول سُبل تمكين دمشق من السيطرة على المناطق الحدودية، وإبعاد «قسد» مسافة مقبولة - بالنسبة إلى أنقرة - عن الحدود.
العرض الأميركي المطروح حالياً يُعتبر إحياءً للمسار القديم


ويترافق العرض الأميركي المطروح حالياً، مع مغريات اقتصادية تقدّمها الولايات المتحدة لأنقرة و«قسد»، بعد استثناء مناطق من سوريا من عقوبات «قيصر». وتُعوّل واشنطن على أن يخلق ذلك نموّاً غير متوازن يخفّف الأعباء الاقتصادية عن تركيا ويقنعها بهذا المسار، الذي يَعتبره الأميركيون بوّابة لتشكيل حلف وازن بين القوى التي تسيطر على المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، يمكنه التأثير بشكل فاعل في المفاوضات السياسية مع دمشق. وبالإضافة إلى ما تَقدّم، تسعى الولايات المتحدة، وفق مصادر سورية معارضة، إلى إيصال رسالة واضحة إلى الدول العربية بالموقف الأميركي الرافض للتطبيع مع دمشق، الأمر الذي تريد من خلاله إفشال المساعي التي تقودها دول عدّة، من بينها روسيا والإمارات والجزائر وسلطنة عُمان، لإعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية. وتُمثّل قطر، التي حضرت الاجتماع الأخير في جنيف، رأس الحربة في هذا السياق، ما يعيق، حتى الآن، الجهود المبذولة لانفتاح عربي كامل على دمشق.
ولا يزال من غير الواضح مدى قدرة الجهود الأميركية على التأثير على موقف تركيا، التي ستُجري على الأرجح مقارنة بين فوائد خطّة واشنطن التي تسعى إلى تثبيت الوضع الراهن من جهة، والجهود الروسية – الإيرانية للانفتاح على دمشق، من جهة أخرى. وتُظهر أنقرة، حتى الآن، رغبتها في مواصلة العمل وفق مسار «أستانا»، الذي يُفترض أن يحقّق لها مكاسب عديدة، أبرزها التخلّص من عبء اللاجئين، وإبعاد «خطر الأكراد» عن حدودها الجنوبية، وهي ملفّات باتت مستعجلة بالنسبة إلى الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الذي يستعد لخوض انتخابات رئاسية العام المقبل. وأمام هذه المتغيّرات، يبدو أن الجهود التي يبذلها المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسن، الذي زار موسكو قبل أيام، لإعادة إحياء مسار «اللجنة الدستورية» المعطَّل، ستصطدم بمعوقات جديدة ستمنع تحقيق أيّ تقدم فعلي ضمن هذا المسار، الذي لم يحرز طيلة الفترة الماضية أصلاً أيّ خرق حقيقي في المشهد السوري، ولم تنجح اجتماعاته السابقة في وضع أرضيّة يمكن البناء عليها. وعبّر بيدرسن عن ذلك صراحة خلال كلمة له في مجلس الأمن قبل أيام، حيث اعتبر أن المشكلة ليست في توقّف الاجتماعات، وإنّما في المسار ذاته، ما يتطلّب دفعة حقيقية، ترى موسكو أن «أستانا» كفيلة بتحقيقها له، فيما تحاول واشنطن إعادة إحياء مسار مناوئ له، يضمن حالة الجمود الحالية القائمة، ويتيح لها المجال لتحصين وجودها في المناطق النفطية السورية.