تكاد خطوات أبو محمد الجولاني على طريق تصدير نفسه «قائداً إسلامياً معتدلاً» يستطيع «المجتمع الدولي» محْضه ثقته، وتأهيله لقيادة جميع المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا في الشمال السوري، لا تنقطع. وبعدما فرض الرجل على جماعته حماية القرى المسيحية من أيّ اعتداءات قد تطالها على خلفيّة ممارسة الشعائر الدينية علناً، ها هو يتحرّك في اتّجاه دروز جبل السماق، الذين يبحث اليوم منْحهم «امتيازاً» مماثلاً بعدما سلبهم حقوقهم قبل سنوات. على أن ما يقوم به الجولاني في هذا الإطار يقابَل باعتراضات من قِبَل بقيّة الفصائل، بما فيها تلك التي تُعدّ حليفةً له، كـ«الحزب الإسلامي التركستاني»، وهو ما يضعه أمام تحدّي المخاطرة بإغضاب «عزوَته»
قبل سيطرة «جبهة النصرة» على محافظة إدلب، كان نحو 10 آلاف مسيحي يقطنون المحافظةَ، قبل أن يرحلوا عنها جميعاً، ويبقى منهم أعداد قليلة، غالبيّتهم من كبار السنّ، يتركّزون في قرى الريف الغربي. هؤلاء يجد فيهم اليوم زعيم «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً)، أبو محمد الجولاني، جنْباً إلى جنب الدروز، ورقة «رابحة» للترويج لصورة «القائد الإسلامي المعتدل» الذي يسعى منذ مدّة غير قصيرة لتلبُّسها. وفي هذا الإطار، عَقد الجولاني، قبل شهرَين، اجتماعاً مع رجال دين مسيحيين ووجهاء من القرى المسيحية الثلاث (القنية - الجديدة - اليعقوبية) التابعة لجسر الشغور، لمناقشة أوضاع قراهم. وفي الـ 28 من آب الماضي، فرض الجهاز الأمني التابع للهيئة طوقاً لحماية قرية اليعقوبية، أثناء قيام العشرات من الأرمن الأرثوذكس بإعادة افتتاح كنيستهم التي ظلت مغلَقة لنحو عشر سنوات، محتفلين بعيد «القديسة آنا».
وتُفيد مصادر من إدلب، «الأخبار»، بأن الخطوة القادمة للجولاني ستكون محاولة «ردّ الاعتبار المجتمعي» لدورز جبل السماق، من خلال زيارة قراهم ولقاء وجهائهم ومناقشة إمكانية منحهم حقّ ممارسة شعائرهم الدينية، ومنْع فصيل «الحزب الإسلامي التركستاني» من دخول مناطقهم ومضايقة أهلها. وكان آخر فصول هذه المضايقات قد سُجّل الشهر الماضي، حيث شهدت قرية قلب لوزة اقتحام مجموعة من الحزب مسجداً خلال صلاة الجمعة، واعتداءها بالضرب على المصلّين لعدم اقتناع «التركستاني» بأن دروز جبل السماق ملتزمون بالشعائر الدينية التي فُرضت عليهم كأحد شروط بقائهم في أراضيهم، وفقاً للاتفاق الذي عُقد عقب «مجزرة قلب لوزة» في حزيران 2015، والذي أَلزمهم بـ«إعلان إسلامهم»، والتخلّي عن شعائرهم الخاصة وزيّهم التقليدي.
الجولاني لن يخاطر بإغضاب مَن يعتبرهم «عزوَته» من مقاتلي «الإيغور»


ويجد الجولاني في «ورقة الأقلّيات» ما يُكسبه ثلاث نقاط: أوّلاً، تدعيم صورة «الإسلام الليبرالي» التي يحاول أن يروّجها عن تنظيمه في سياق جهوده لإزالته من «اللائحة السوداء»؛ وثانياً، وضع حواجز إضافية أمام أيّ معركة لاستعادة الحكومة السورية السيطرة على الطريق الدولية «M4» في الجزء الذي يمرّ من محافظة إدلب؛ وثالثاً، إقامة علاقة مع قوى سياسية معارِضة تَعتبر نفسها ممثِّلةً لـ«مكوّنات وأقلّيات» تعيش داخل سوريا، مِن مِثل «حزب اللواء» الذي يقدّم نفسه على أنه حزب درزي، علماً بأن زعيمه، مالك أبو الخير، طالب الحكومة التركية أكثر من مرّة بالضغط على «التركستاني» لوقف الاعتداءات على سكّان جبل السماق. على أن مواقف بقيّة التنظيمات الفاعلة في إدلب من خطوات الجولاني تجاه المسيحيين والدروز، جاءت متشنّجة، وخاصة من ألدّ خصوم «تحرير الشام»، تنظيم «حرّاس الدين» المعروف بميْله إلى «داعش»، والذي اتّفق قادته على أن الجولاني يحوّل إدلب إلى «منطقة أقلّ إسلاماً ممّا هي عليه الآن». ولم تُعجب تلك الخطواتُ، أيضاً، حلفاء الجولاني في «التركستاني»، المشكَّل من مقاتلين من أقلّية «الإيغور» الصينية يعتقدون بأن جبل السماق جزء من مناطق نفوذهم التي يحقّ لهم استملاك الأراضي والمنازل المهجورة فيها، والتصرّف بها كـ«غنائم حرب».
وفي هذا الإطار، تتحدّث مصادر من مدينة إدلب، لـ«الأخبار»، عن أن الجولاني لن يخاطر بإغضاب مَن يعتبرهم «عزوَته» من مقاتلي «الإيغور»، والذين قاتلوا خصومه من بقيّة الفصائل في مراحل سابقة. وتستدرك المصادر بأن الجولاني يجد في «الإيغور» عُقدة حقيقية أمام مشروع «لبرَلَة النصرة»؛ إذ إن استمرار وجودهم بما يُعرف عنهم من تطرّف، سيمنع إقناع «المجتمع الدولي» بأن «تحرير الشام» تابَت عن تطرّفها، كما أن إمكانية إقناعهم بارتداء «الليبرالية» ولو أمام عدسات الكاميرات شبه مستحيلة، وبالتالي فإن وجودهم في شمال غرب سوريا سيعيق تحقيق حلم الجولاني بإقامة منطقة تُدار ذاتياً إذا ما عادت الإدارة الأميركية إلى طرح مشروع «الفدرَلَة». وتَلفت المصادر إلى أن إدلب بشكلها الحالي تعني بالنسبة إلى الجولاني «الإقليم الإسلامي الذي يحلم به»، وهو يدرك أن طلب تجنيس «الإيغور» أو سواهم من الأجانب أمر مستحيل الطرح، كما أنه يدرك أن طرد حلفائه «الأكثر وفاءً» يعني الانتحار، الأمر الذي يصعّب عليه الخيارات.