قد لا يكون بإمكان مرضى السرطان قريباً الحصول على جرعاتهم الكيماوية بسهولة، فيما قد تتوقّف غرف العمليات في المستشفيات العامّة والخاصة عن إجراء العمليات الجراحية لنقص المواد المخدِّرة. هذه بعض من السيناريوات القاتمة التي يُخشى أن تَتحقّق في سوريا لدى مباشرة الولايات المتحدة تطبيق بنود القانون الجديد، الرامي بحسب واضعيه إلى «مكافحة انتشار المخدرات عبر سوريا»، بينما هو عملياً عبارة عن تشريع مكمِّل لـ«قانون قيصر» الشهير، الذي بدأ تطبيقه منذ منتصف عام 2020، وأدّى إلى تسريع التدهور الاقتصادي في عموم الأراضي السورية. على أن اللافت في قانون «مكافحة الكبتاغون»، أنه لم يحدّد آليات عمل أو يفرض عقوبات واضحة كما في التشريعات السابقة، وإنما كلّف مؤسّسات الإدارة الأميركية تقديم استراتيجية تأخذ في الاعتبار خمسة متطلّبات أساسية، أخطرها ما جاء في البند الثاني المتمثّل في «توظيف نظام العقوبات بشكل فعّال، بما فيها عقوبات قيصر لاستهداف شبكات المخدّرات التابعة للنظام السوري»، وهو ما يعني بوضوح أن ثمّة تَوجّهاً أميركياً لتشديد العقوبات على سوريا، وتالياً دفْع الأوضاع الاقتصادية والمعيشية داخل البلاد إلى مزيد من التدهور.
احتمالات مفتوحة
قد يجد البعض في الحديث عن الانعكاسات الاقتصادية السلبية للتشريع الجديد، مجرّد تهويل إعلامي واصطفاف سياسي غايته الدفاع عن «النظام»، لكن يغيب عن تفكير هؤلاء أن الموجات الأولى من العقوبات الغربية، التي فُرضت على سوريا، كانت تبرَّر دوماً بأنها تستهدف الحكومة السورية ومسؤوليها فقط، فيما آلامها المبرحة ظلّت من نصيب المواطنين السوريين، الذين زادت أعداد فقرائهم وعاطليهم عن العمل بشكل غير مسبوق. كما أن تجربة «قانون قيصر» أثبتت أن استثناء بعض القطاعات كالغذاء والدواء من العقوبات، إنّما بقي إجراءً شكلياً ولأهداف إعلامية، بدليل أن العديد من الشركات العالمية لا تزال تفضّل عدم الدخول في علاقات مباشرة مع السوق السورية، وتشترط أن يتمّ ذلك عير دولة ثالثة. وللعلم، فإن التقديرات البحثية المستقلّة تتحدّث عن أن خسائر الاقتصاد السوري جرّاء العقوبات الغربية المفروضة عليه، كانت تتجاوز عام 2013 ما نسبته 23% من إجمالي الناتج المحلّي الإجمالي. وهي نسبة زادت بشكل كبير مع تَوسّع دائرة العقوبات خلال السنوات التالية، لتشمل قطاعات وأنشطة اقتصادية وخدمية متنوّعة، فضلاً عن وضع «قانون قيصر» موضع التنفيذ عام 2020، حيث تذهب التقديرات غير الرسمية إلى أن الخسائر باتت تزيد على الضِعف من النسبة السابقة. وبحسب تقديرات أحد الباحثين الاقتصاديين، فإن ما خسره الاقتصاد السوري من جرّاء الحصار خلال الفترة الممتدّة بين عامَي 2011 و2017، يتجاوز 75 مليار دولار.
وعلى رغم أن القانون الجديد، من وُجهة نظر هامس زريق، المدير السابق لـ«مركز دمشق للأبحاث والدراسات»، «يَذكر بدقّة الغاية منه، إلّا أن مفاعيله ستتجاوز الغاية المزعومة (كما جرت العادة) نحو المزيد من الخنق الاقتصادي. فقد سبق لقانون قيصر استثناء مواد عديدة ذات طابع إنساني من الحصار، إلّا أن التطبيق العملي له أثر على تأمين جميع الاحتياجات الأساسية وغير الأساسية من مواد غذائية وغيرها. أضف إلى ذلك، ما تسبّبت به العقوبات من حرمان الدولة السورية من مصادر القطْع الأجنبي لتوفير مستورداتها من هذه المواد». وفي انتظار اتّضاح ملامح الاستراتيجية التي ستعتمدها واشنطن بموجب التشريع الجديد، فإن الانعكاسات الاقتصادية المرتقبة ستتأتّى من الاحتمالات التالية:
- تشديد الرقابة على المستورَدات السورية بحجّة استهداف المواد الداخلة في إنتاج المخدرات، وما سوف ينجم عن ذلك من صعوبة الحصول على بعض المواد الأوّلية الداخلة في الصناعة، ولا سيما الطبية والدوائية منها، فضلاً عن فقدان سلع وبضائع أساسية من الأسواق المحلّية. ويشير فارس الشهابي، رئيس «غرفة صناعة حلب»، في هذا الإطار، إلى أن «قطاع الدواء يعاني أصلاً صعوبة تمويل مستلزماته بسبب العقوبات»، مضيفاً، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «الصناعة اليوم تعاني الأمرَّين من العقوبات الخارجية، ومن العقبات الداخلية الكثيرة والمعروفة. نحن نعمل اليوم في ظروف شبه مستحيلة، ولم نعمل كما يجب على عودة الاستثمارات التي غادرت بفعل الحرب». وعليه، فإن النتائج المتوقَّعة ستكون مزيداً من التعثّر الإنتاجي في البلاد، وارتفاع الأسعار إلى مستوى جديد.
يستثني القانون الجديد المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية من العقوبات


- عرقلة الصادرات السورية المتّجهة إلى الخارج، وذلك من خلال الضغط على الدول المجاوِرة المستقبِلة، أو التي تمرّ فيها السلع والمنتَجات السورية. إذ إن تشديد إجراءات التفتيش على الحدود، والتسبّب بتلف بعض المنتَجات والبضائع، سيكونان عاملاً رئيساً في تراجُع قِيم الصادرات، هذا إذا لم تبادر بعض الدول إلى وقف مستورَداتها من الأسواق السورية أو التقليل من حجمها إرضاءً لواشنطن.
- الحدّ من تجارة الترانزيت التي تتمّ عبر الأراضي السورية. وهنا، سيكون «معبر نصيب» الحدودي مع الأردن على قائمة أولويات الضغط الأميركي. فالمعبر الذي جرى تحريره عام 2018، وكان يُتوقَّع له أن يعاود عمله بأقصى طاقاته بعد توقّف دام لأربع سنوات تقريباً، لا يزال، نتيجة القيود الأميركية على عمّان، يعمل بأقلّ ممّا هو مُتاح. أمّا المعابر الحدودية مع لبنان، ومع أنها تبقى مختلفة بعض الشيء، إلّا أنها من المتوقّع أن تشهد إجراءات جديدة من قِبَل الجانب اللبناني تجنّباً للعقوبات الأميركية. وهذا ما يذهب إليه الباحث زريق بقوله: «يمكن أن يسهم هذا القانون، وبحجّة تهريب الكبتاغون، في التضييق على المعابر الحدودية التي تشكّل رئتَي الاقتصاد السوري المنهَك، والضغط على دول الجوار كلبنان والأردن والعراق لتقييد البضائع دخولاً وخروجاً منها».
- تشديد الحصار على الحسابات المصرفية لبعض رجال الأعمال والمستورِدين، والمستخدَمة في تمويل مستورَداتهم وأنشطتهم الاقتصادية، لتزداد بذلك صعوبات تمويل المستورَدات وتأمين احتياجات السوق المحلّية، وترتفع تكاليفها.
- إمكانية قيام طائرات «التحالف الدولي» بقيادة واشنطن، باستهداف بعض المنشآت الاقتصادية والخدَمية في الداخل السوري بذريعة الاشتباه بتصنيعها المخدّرات أو اتّهامها بتسهيل تجارتها وعبورها إلى دول الجوار. وربّما توكل المهمّة في ذلك إلى إسرائيل، لتبقى حدود هذا التصعيد المحتمَل مرهونة بالتواجد الروسي وردّة فعله.

مناطق مستبعدة
يستثني القانون الجديد المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية من العقوبات، وإنْ لم يذكر ذلك صراحة، علماً أن هذه المناطق، في مجال تصنيع المخدرات وتجارتها، هي برأي الحكومة أشبه ما تكون بـ«صندوق بندورة» الذي فتحتْه الفصائل المسلّحة بحثاً عن التمويل، وجعلت شروره تنتشر في عموم البلاد، وهو ما يعزّز الفرضية القائلة إن الغاية الأساسية من القانون تتمثّل في تشديد الخناق على دمشق، في إطار استراتيجية هدفها الأكبر توسيع دائرة المواجهة المباشرة مع موسكو. لكن ما الذي ستفعله سوريا لمواجهة مفاعيل القانون الأحدث؟ وما هي الخيارات المتاحة أمامها وأمام حلفائها في مرحلة التصعيد الجديدة؟