بعدما عاش انفراجة مؤقّتة إثْر استئناف تركيا تدفّقاتها المالية لصالحها خلال الشهرَين الماضيَين، يعود «الائتلاف السوري» المُعارض ليعيش أزمة خانقة، تُهدّد بإنهاء وجوده هذه المرّة، في ظلّ تخفيض أنقرة تلك التدفّقات البالغة 250 ألف دولار شهرياً، بشكل حادّ، توازياً مع انطلاق تحقيقات داخلية أظهرت وجود عمليات فساد كبرى في هذا التشكيل. والظاهر، على ضوء ذلك، أن تركيا توصّلت إلى قناعة بأن الائتلاف لم يَعُد أكثر من «ثقب أسود» يستهلك الموارد بلا طائل، وهو ما سيدفعها إلى تعجيل خطواتها الهادفة إلى إعادة هيكلة الفصائل المُوالية لها، وربطها بـ«الحكومة المؤقّتة»، وإعداد خطّة اقتصادية تؤمّن القسم الأكبر من احتياجات هذه الأخيرة المالية بشكل ذاتي
يعيش «الائتلاف السوري» المُعارض، هذه الأيّام، أزمة مالية خانقة أدّت إلى توقّف معظم نشاطاته، في وقت بدأت فيه عملية مساءلة داخلية بين أعضائه والهيئات التابعة له، للبحث في أسباب الوصول إلى هذه المرحلة، والتي وصفتْها مصادر سورية معارضة، تحدّثت إلى «الأخبار»، بأنها «حرجة وقد تؤدّي إلى وأْده». وكانت تلك الأزمة بدأت قبل نحو ستّة أشهر، إثْر قيام تركيا بقطْع مصادر التمويل عن «الائتلاف» على خلفية فتْحه قنوات تَواصل مع جهات خارجية، من بينها الولايات المتحدة التي حاولت فرض سيطرتها عليه، ضمن خطّتها لإعادة التصعيد السياسي في سوريا. ثمّ عاد هذا الشحّ وانحسر نسبياً، مع استئناف أنقرة تمويل حليفها السوري خلال الشهرَين الماضيَين - بعدما حصلت منه على تعهّدات بعدم الانخراط في أيّ مشروع سياسي من دون العودة إليها -، وتحديداً في أعقاب الجولة التي نظّمتها الخارجية الأميركية لأعضاء «الائتلاف» في نيويورك، بالتزامن مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الفائت.
وأفْضت المراجعة الداخلية الجارية حالياً، والتي كان طالب بها بعض الأعضاء لمعرفة سبب تدهوُر الوضع المالي لـ«الائتلاف»، في خطواتها الأولى، إلى الكشف عن العديد من ملفّات الفساد المالي، ومن بينها صرف رواتب ومكافآت غير منطقية لعدد من الأعضاء، بالإضافة إلى صرف فواتير إقامة وتنقّلات سياحية لآخرين تحت ستار «الجولات السياسية»، الأمر الذي أدّى إلى فقدان معظم أموال «صندوق الاحتياط» الخاصّ بتأمين التدفّقات المالية في حالات الطوارئ، وفق ما تَكشفه المصادر نفسها. وتَلفت هذه الأخيرة إلى أن الأزمة المالية الخانقة التي يعانيها «الائتلاف»، أدّت إلى وقْف صرْف رواتب الموظفين، بالإضافة إلى تراكُم إيجارات عدد من العقارات التي يتمّ استعمالها كمكاتب ربط، فضلاً عن عدم التمكّن من دفع تكاليف حجوزات لازمة لعدد من الاجتماعات، من بينها اجتماع دوري لـ«الهيئة العامة». وبالإضافة إلى ملفّات الفساد العديدة التي فاقمت الوضع، تتحدّث المصادر عن وجود توجُّه تركي جادّ لإنهاء «الائتلاف» بشكل تدريجي، بعد التوصّل إلى قناعة مفادها بأن هذا التشكيل «مجرّد ثقب أسود» لا طائل منه، في ظلّ وجود هيئات أخرى أكثر فاعلية، وذات تأثير حقيقي على الأرض، مِن مِثل المجالس المحلّية التي انهمكت تركيا في مأسستها، و«هيئة التفاوض» التي باتت تمثّل الواجهة الرسمية للمعارضة السورية في المحافل الدولية، إلى جانب «الحكومة المؤقّتة» التي باتت تعمل بشكل مستقلّ عن «الائتلاف» على الرغم من أنها وُلدت من رحِمه.
توصّلت تركيا إلى قناعة مفادها بأن «الائتلاف» «مجرّد ثقب أسود» لا طائل منه


وعانى «المجلس الوطني السوري» (أوّل تشكيل للمعارضة السورية عقب اندلاع الحرب في سوريا)، ومِن بَعده «الائتلاف» المُعارض، من حالة انقطاع تامّ عن الشارع، في ظلّ استقرار أعضائهما في فنادق خارج البلاد (معظمهم في تركيا)، الأمر الذي خلق فجوة كبيرة في التواصل بينهما وبين المواطنين الذين يُفترض بهما تمثيلهم. وهكذا، استُثمرت هذه التشكيلات إعلامياً فقط خلال السنوات العشر الماضية، في وقت ظلّت فيه الفصائل الموجودة على الأرض هي العنصر الأقوى في المشهد، وصولاً إلى محاولة تركيا اليوم إعادة ضبْطها، عبر دمْجها في جسم واحد، ووضْعها تحت كنف «الحكومة المؤقّتة» كبديل داخلي لترتيب الأوضاع بعد توسيع مساحة عمل المجالس المحلّية، فيما تتولّى «هيئة التفاوض» تمثيل الواجهة السياسية للمعارضة. وفي هذا الإطار، تَلفت المصادر المعارِضة إلى أن أنقرة لمست رفْض دمشق التعامل مع «الائتلاف» أو الاعتراف به ممثِّلاً عنها، وميلها إلى التعامل مع «هيئة التفاوض» التي تمثّل شرائح أوسع، علماً أن اللقاءات بين وفدَي الحكومة و«الهيئة» كانت توقّفت على خلفية تجميد مسار «اللجنة الدستورية».
وفي ما يتعلّق بمسألة محاولات أميركا جذب «الائتلاف» إلى صفّها، يبدو أن تركيا توصّلت إلى قناعة بأن الولايات المتحدة لن تستمرّ في هذه الخطوات، في ظلّ وجود بدائل أكثر قوّة على الأرض، ما زالت تتحكّم بها أنقرة. ولعلّ ذلك هو ما يفسّر التوجّه الأميركي أخيراً نحو توسيع قنوات التواصل مع المجتمع المحلّي، والسعي لخلْق توازن عربي - كردي في مناطق «الإدارة الذاتية» التي يخضع معظمها للسيطرة الأميركية، بالإضافة إلى منطقة التنف التي أعادت واشنطن هيكلة الفصائل الموجودة فيها. وتُضاف إلى ما تَقدّم المحاولة الأميركية الحثيثة لاستيلاد معارضة جديدة تنشط من داخل الولايات المتحدة، بالاعتماد على عدد من الأميركيين من أصول سورية كواجهة سياسية تُحضّرها واشنطن للمرحلة المقبلة.
بالنتيجة، لم يَمت بعد «الائتلاف» كتشكيل سياسي سوري معارض بشكل نهائي، على الرغم من حالة «الكوما» التي عاشها منذ نشأته. وعلى رغم محاولات بعض أعضائه إعادة تأمين التدفّقات المالية اللازمة لاستمراره، إلّا أن المصادر ترى أن هذه المحاولات لن تؤدّي إلى أيّ نتائج طيّبة. وحتى لو آلت إلى توفير تدفّقات جديدة، فستكون هذه الأخيرة بمثابة «مخدّر» مؤقّت، لن يقي الائتلاف النهاية الحتمية المتمثّلة في حلّه نهائياً، بعد ثبات فشله طيلة السنوات الماضية، وفق تعبير المصادر.