يبدو أن أبواب «التسوية» التي تفتحها الحكومة السورية بين الحين والآخر - منذ أعلنت بدء مرحلة المصالحة -، أصبحت «مفتوحة أكثر من اللازم». إذ اتّسع بشكلٍ غير رسمي نطاق مَن تشملهم التسوية التي انطلقت الشهر الماضي في ريف دمشق، متعدّياً المطلوبين للفروع الأمنية في ما يُعرف بـ«قضايا أمن الدولة»، والمتخلّفين عن الخدمة العسكرية، ليضمّ الكثير من مُرتكبي الجنايات والجنح المختلفة، ذكوراً وإناثاً ومن مختلف الأعمار. ذلك أن سعي الدولة لإنجاح تسوياتها من جهة، واغتنام المشتبَه فيهم فرصة الحصول على «كفّ بحث» من جهة أخرى، خلطا الأمور ووسّعا هامش التزوير.في ساحة البلدية في مدينة دوما، عُقدت «حلقات الدبكة» ومُدّت «المناسف» في الاحتفالية التي امتدّت لسبعة أيام متتالية بمناسبة بدء عملية التسوية الشاملة في الغوطة الشرقية. يُقال إن الاحتفال جرى على نفقة أحد أعضاء «مجلس الشعب» الذي كان أيام الحرب «متعهّد الأنفاق» في الغوطة، قبل أن يُسوّي وضعه في الفترة التي استعادت فيها الحكومة سيطرتها الكاملة على دمشق وريفها عام 2018. ويبدو أن فكرة المصالحة مع الدولة أصبحت في نظر البعض «مكسباً» وليست حاجة فقط، بخاصة عندما تترافق مع دعم من البيئة الحاضنة. يرى أحمد، الشاب العشريني، وابن بلدة كناكر في ريف دمشق، والذي لا يَعرف ما إذا كان مطلوباً أمنياً أم لا، أن حصوله على «وثيقة تسوية» يسهّل تنقّله بين بلدته والعاصمة، معتبراً أن «الحواجز الأمنية تنظر إلى حاملي الوثيقة باحترام». ولذا، فقد أقدم على تسوية وضعه مع عدد من رفاقه، لا سيما بعدما دعاهم إلى ذلك «إمام الجامع» عبر مكبّرات صوت المسجد، وعندما سُئل من قِبل الجهات المختصّة عما اقترفت يداه، كان الجواب: «تقرير كيدي!». أما أبو عمر، من بلدة التلّ، الذي شجّع ابنه على تسوية وضعه، فما زال ينتظر التأكّد من «كفّ البحث» عن اسم نجله، بهدف تحقيق حلمه بإخراجه من البلدة، ومن ثم تأمين سفره خارج البلاد ولو بطرقٍ غير قانونية. يقول: «الدولة سامحت مَن قتل وخرّب وموّل وحرّض، يجب أن تسامح ولدي، فأعظم جرم قد ارتكبه أثناء اشتعال منطقتنا، هو قطع طريق وحرق دولاب».

لا شروط
من الواضح أن إجراءات التسويات تتمّ بسهولة ويُسر. فجميع المتقدّمين يحصلون على الوثيقة المطلوبة مهما اختلفت تهمهم. حتى قاعدة «من لم تتلطّخ أيديهم بالدماء» سقطت في ظلّ تلك التسهيلات، حيث لا يحتاج المتقدّم إلّا إلى ملء الاستمارة بمعلوماته الشخصية، وإجابة اللجنة المختصة، التي تجمع بين الأمن والشرطة والقضاء العسكري، عن أسئلتها حول التهم الموجّهة إليه. هذا ما أكده عبدالله، الرجل الستّيني الشاهد على أحداث منطقة داريا وتسوياتها، قائلاً: «أعرف كلّ الذين حصلوا على تسوية، الكثير منهم برقبتهم دم»، ويضيف: «منهم مَن أصبحوا مجرمي حرب بعد انتهاء الاقتتال في المنطقة، حيث امتهنوا التهريب والسرقة والاستغلال وغير ذلك». وبرأيه، فإن الفئة القليلة التي تستحقّ المصالحة فعلاً، هم «من طُلبوا أمنياً بسبب تقارير ملفّقة أو من كانت مشاركتهم في الحرب من مبدأ مع السوق منسوق ثمّ تابوا بعد ذلك»، فيما معاذ مثلاً، الثلاثيني ابن المنطقة، جرمه «تهريب مازوت»، وقد حصل على «تسوية»، ويطالب بـ«كفّ بحث» ليعود إلى حياته الطبيعية.
من الواضح أن إجراءات التسويات تتمّ بسهولة ويُسر


ولم تشترط تسوية ريف دمشق تسليم السلاح على مَن تَعلم الدولة بحيازتهم له، كما حصل في محافظات أخرى كدرعا ودير الزور، وهو ما يعزوه البعض إلى رغبة الحكومة في إنجاح التسوية بسرعة وسلاسة، بالتالي تصدير صورةٍ من الاعتماد على «الحلول الداخلية» أوّلاً لتسوية الأزمة السورية. أما الأبعاد الأخرى لهذا الشكل من التعاطي، كما يراها أحد أبناء ريف القلمون، فتتّصل بـ«غربلة الناس والمحافظة على المؤيدين منهم فقط»، إذ يقول: «قد تكون خطّة من الممسكين بالقبضة الأمنية في البلاد للإيقاع بالمطلوبين، أو فتح المجال أمام مَن يرغب منهم للخروج من البلاد، الكثير من أبناء منطقتي المطلوبين لا يبحثون عن صُلح، وإنما عن فرصة للهرب».
وفي المقابل، يؤمن البعض الآخر أن التسويات والمصالحات المنتشرة بكثافة، مع اختلاف الإقبال عليها، هي مساعٍ حكومية جادّة لـ«لملمة» الشعب السوري تحت مظلّة واحدة، وإعادة المياه إلى مجاريها بين أبناء الوطن، مؤكّدين أن «الصلح هو سيد الأحكام» لحماية البلاد من السقوط مجدّداً في الحرب.