منذ نجاحهما، مع روسيا، في عام 2017، في إطلاق «مسار أستانا» لإيجاد حلّ للصراع في سوريا، تحوّلت المواجهة المباشرة بين إيران وتركيا، ربْطاً باشتعال الملفّ السوري منذ عام 2011، إلى مرحلة من التوتّر المضبوط والمواجهة غير المباشرة، والتي تخلّلتها محطّات عديدة لعبت فيها طهران أدواراً مهمّة في خلْق الظروف المساعِدة للرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، من أجل الإفصاح عن نواياه المتعلّقة بطرْق باب «قصر المهاجرين» من جديد. وممّا ساعد على ذلك، نجاح الحكومة السورية، على مدى السنوات الأربع الماضية، في استعادة المزيد من الجغرافيا السورية من قبضة الفصائل المسلّحة المدعومة من المعسكر الغربي - العربي الذي كان إردوغان أحد أبرز أقطابه، ما مكّنه من تحويل أجزاء كبيرة من الشمال السوري إلى بقاع تحت سيطرة أنقرة ونفوذها المباشر أو غير المباشر، وإنْ بهدف مُعلَن هو «مواجهة الإرهاب العابر للحدود».
تَعتبر طهران أن أيّ تقارب بين أنقرة ودمشق يصبّ في خانة تعزيز المعسكر المناهض للولايات المتحدة (أ ف ب)

في طهران، يسود اعتقاد بأن أيّ تقارب بين أنقرة ودمشق يصبّ في خانة تعزيز المعسكر المناهض للولايات المتحدة، بصرف النظر عن نوايا إردوغان من خلْف هذا التقارب، خصوصاً أن الأخير قد تقلّص هدفه في سوريا من «الصلاة، فاتحاً، في المسجد الأموي» في دمشق، إلى محاولة دفْع خطر الأكراد عن الحدود مع بلاده، ومنْعهم من إنشاء كيان خاص بهم شمال سوريا. وهنا، تقول مصادر سياسية إيرانية، في حديث إلى «الأخبار»، إن العمليات العسكرية الأربع التي نفّذتها أنقرة في الشمال السوري، ساهمت إلى حدّ كبير في خلْق الواقع المتوتّر الحالي بينها وبين واشنطن، وهي من شأنها أيضاً أن تدفع الأكراد (قوات سوريا الديمقراطية) إلى أحضان الرئيس بشار الأسد، إذا لم تنجح الضغوط الأميركية في طمْأنتهم حيال مستقبلهم في المنطقة. وتضيف المصادر أن طهران كانت دائماً تَنظر إلى التطوّرات الميدانية من منظورها الخاص الذي لا يقتصر على الجغرافيا السورية، بل يمتدّ أيضاً إلى العراق، خصوصاً مع التداخل التفصيلي بين البلدَين من حيث تقاطع الأهداف والمصالح والمخاوف.
لا يعني هذا، بالنسبة إلى إيران، التغاضي عن إمكانية وجود «تنسيق» تركي - إسرائيلي في سوريا، خصوصاً أن أنقرة تتقارب حالياً مع تل أبيب، وأن الطرفَين تبادلا السفراء من جديد. كما لا يعني غضّ الطرف عن استمرار وجود نوايا توسّعية لدى تركيا، خصوصاً في ظلّ دعوة ياسين أقطاي، مستشار رئيس «حزب العدالة والتنمية» الحاكم، إلى «وضْع حلب تحت السيطرة التركية»، مع ما تمثّله المدينة من بوّابة استراتيجية إلى الوسط السوري. وإنْ كان أقطاي قد عاد وأوضح أن ما نُقل عنه هو موقف شخصي وأن لا علاقة لتصريحاته بالحكومة التركية، إلّا أن المصادر الإيرانية ذاتها تقول إن طهران تُدرك أن علاقتها بدمشق هي محلّ استهداف دائم من قِبَل واشنطن وتل أبيب وربّما أنقرة، وعليه، فإنها تأخذ في الحسبان جميع السيناريوات المحتمَلة لأيّ خطر يمكن أن يتهدّد هذه العلاقات من أيّ نقطة أتى.
تعتقد طهران بأن التقارب بين دمشق وأنقرة يخدم استراتيجيتها القائمة على إخراج القوات الأميركية من المنطقة


في المقلب الآخر، يحرص الأتراك على تحديد أولوياتهم من التقارب مع دمشق، إذ يضعون منْع ظهور كيان كردي على حدودهم على رأس اللائحة، إضافة إلى التخلّص من عبء اللاجئين. وهنا، تقول مصادر مقرّبة من «حزب العدالة والتنمية»، في حديث إلى «الأخبار»، إن التقارب مع الأسد يعني، بشكل أو بآخر، تسوية سياسية تقتضي من الطرفَين تقديم التنازلات من أجل إنجاحها. وفي هذا المجال، تتحدّث المصادر عن «أوراق كثيرة» بيد أنقرة يمكن أن تقدّمها لدمشق على مذبح ذلك التقارب، وأهمّها ورقة الفصائل المسلّحة. في المقابل لا يمكن حصْر مطالب تركيا في الجانب الأمني فقط، كالحديث عن منطقة آمنة وما شاكَل، إذ يمكن في مرحلة متقدّمة فتْح الصفحة الاقتصادية والحديث عن إعادة الإعمار. وإذ يمكن للمطالب الاقتصادية أن تشكّل نقطة تقاطُع بين البلدَين، فهي ستمثّل موضع استفادة أيضاً لجميع الأطراف، ومن بينها إيران، التي استثمرت كثيراً في الآونة الأخيرة في التقاطعات المهمّة ما بين أطراف «ثُلاثي أستانا»، وعلى رأسها ضرورة إنهاء الوجود الأميركي في شمال سوريا وشرقها، بحسب المصادر نفسها، التي تستدرك بأن طهران يمكن تصنيفها ضمن لائحة الخاسرين من أيّ تقارب تركي مع دمشق، إضافة إلى واشنطن و«حزب العمّال الكردستاني».
على أن الترويج التركي لكون إيران ضمن معسكر الخاسرين من عودة العلاقات السورية - التركية، يمكن وضْعه في إطار «التسويق الداخلي» التركي لخطوة التقارب مع الأسد. ذلك أن «طهران كانت أوّل مَن عمل، وبجدّ، من خلال "أستانا"، للتقريب بين إردوغان والأسد»، وفق ما تقول المصادر الإيرانية لـ«الأخبار»، مبيّنةً أن «مردّ ذلك العمل هو أن إيران تعتقد بأن التقارب بين سوريا وتركيا يخدم أوّلاً استراتيجيتها القائمة أساساً على إخراج القوات الأميركية من المنطقة، ويشكّل ثانياً فرصة أمام الدول التي تخضع للعقوبات الأميركية لإرساء تعاون اقتصادي يُمكّنها من عرقلة العقوبات الأميركية والتخفيف من مفاعيلها».
قبل أيام، حصل لقاء في موسكو على مستوى وزراء الدفاع والاستخبارات في كلّ من سوريا وتركيا. وبعد أيام، من المرتقب أن يَجري لقاء آخر على مستوى وزيرَي خارجية البلدَين. لكن، حتى الآن، لا توجد خارطة طريق واضحة لإعادة ترتيب هذه العلاقة، في ظل «كَومة» الملفّات العالقة بين الطرفين. وفي خضمّ الضغط الداخلي الذي يواجهه إردوغان، المقبل على انتخابات رئاسية مصيرية، يبدو أن الأسد يتحيّن الظرف المناسب لإعطاء إشارة الموافقة على «لقاء قمّة» يريد في خلاصته إقراراً تركياً بـ«جرْدة حساب» سورية للتورّط التركي في الحرب، فيما يتطلّع إردوغان إلى أن يشكّل له حبل خلاص في مواجهة «مشاريع الانفصال» التي بدأت إرهاصاتها تضرب في الداخل التركي. أمّا في المقلب الآخر للصورة، فيبدو أن «المصالحة» السورية - التركية ستكون مقدّمة لمرحلة جديدة من العلاقة التركية - الإيرانية، تتحدّد هوامشها ودرجة سخونتها انطلاقاً من دمشق، وتحت أعين موسكو.