دخلت المساعدات الخليجية لضحايا الزلزال في تركيا وسوريا، بازار السياسة، باعتبار أن لكلّ من دول الخليج التي ساهمت بنِسب متفاوتة في حفلة التدمير خلال الحرب، حساسياتها الخاصة في التعامل مع هذا البلد. ويُضاف إلى تلك الحساسيات، تنافُس بَيني خليجي ظهرت معالمه في الاستجابة للحدث نفسه، ما أدّى إلى خلل كبير في توزيع المعونات، استفادت منه تركيا التي يسعى رئيسها، رجب طيب إردوغان، إلى مواجهة انتقادات المعارضة لبطء تعامُل حكومته مع الكارثة، من خلال احتكار المساعدات لبلاده على حساب الجانب السوري، ولا سيما أنه يواجه انتخابات رئاسية صعبة في أيار المقبل
لم يكن ممكناً للتفاعل الخليجي مع الزلزال التركي - السوري أن يكون أسوأ ممّا كان عليه، في الجانب السوري، حيث أربكت السياسة مسار المساعدات الخليجية، ما جعلها تتوجّه إلى تركيا التي يبدو أنها احتكرتْها لنفسها، ولم تسمح بانتقال شيء منها إلى الشمال السوري المنكوب. ولعلّ مردّ ذلك إلى أسباب داخلية تركية تتعلّق خصوصاً بالانتخابات الرئاسية المقرَّرة في أيار المقبل، ولا سيما أن المعالجة الحكومية هناك لتداعيات الكارثة تعرّضت لانتقادات من قِبَل المعارضة بسبب بطئها. في ردّة الفعل الأولى على الزلزال، بدا الصمت الخليجي مخجلاً، إلّا أنه مع تكشُّف هول الكارثة والضغط الشعبي المكتوم، ما عادت السلطات في دول الخليج قادرة على السكوت، وهي المطالَبة من شعوبها بالاستجابة بفعل الوفرة المالية التي تتمتّع بها، فانتقلت إلى مرحلة تقديم المساعدات وإنّما مع الاستثمار السياسي لِما حدث.
لكن بسبب حساسية سوريا بالنسبة إلى دول الخليج، ظَلّ هذا البلد، بعد خمسة أيام على الزلزال، شبه محروم من المساعدات. ونتيجة لذلك، لم تُتَح أيّ فرصة لإنقاذ العالقين تحت الردم في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية، ما دفع القائمين على عمليات الإنقاذ في تلك المناطق إلى انتقاد لا عدالة توزيع المساعدات والمعدّات الضرورية للإنقاذ بين تركيا وسوريا، في حين أن المناطق المنكوبة الواقعة تحت سيطرة حكومة دمشق لم تستفد سوى من مساعدات إيرانية وروسية شملت استخدام معدّات ثقيلة لرفع الأنقاض، وبعض الإماراتية واللبنانية التي خرقت بالفعل جدار العقوبات على دمشق، قبل أن تُعلّق الولايات المتحدة تطبيق بعض العقوبات لمدّة ستّة أشهر. أمّا الجسر الجوّي السعودي الذي أقيم باسم سوريا وتركيا، فيذهب فقط إلى الثانية، ولم يصل منه شيء إلى أيّ من مناطق الأولى. فحتى أمس، وصلت خمس طائرات سعودية تحمل فِرق إنقاذ ومساعدات إغاثية إلى تركيا. وعلى رغم أن وسائل إعلامية سعودية واكبت وصول المعونات، قالت إن جزءاً منها سيذهب إلى سوريا، إلّا أنها لم تتحدّث عن آليّة لحصول ذلك، فيما من غير المتوقّع أن تُسهّل تركيا وصوله إلا بعد تشبّع الجانب التركي. ويبدو أن الرياض لا تريد في هذه المرحلة التعامل المباشر مع النظام السوري، على رغم المحادثات المستمرّة بين الجانبين بعيداً عن الأضواء، في حين أن إرسال المساعدات مباشرة إلى مناطق الشمال الواقعة تحت سيطرة المعارضة، يفترض تعاملاً مباشراً مع الفصائل المسيطرة هناك من مِثل «جبهة النصرة»، وهي فصائل أوقفت المملكة التعامل معها منذ انسحابها من دعْم المسلّحين في مرحلة مبكرة من الحرب.
تركيا تُحرج الحكومات الخليجية بمنع وصول المساعدات إلى الجانب السوري


وجمعت منصّة «ساهم» التي أطلقتْها السعودية لسوريا وتركيا معاً، 200 مليون ريال، أي نحو 53 مليون دولار حتى أمس، وهو مبلغ متواضع نسبةً إلى حجم الكارثة وإمكانات المملكة، في حين حصَر «مركز الملك سلمان للإغاثة» التبرّعات لمتضرّري الزلزال به، ما يعني منْع المبادرات الأهلية التي يمكن أن تُظهر حجم التعاطف الشعبي السعودي مع المتضرّرين، ولا سيما المقيمين منهم في المناطق التي تسيطر عليها «النصرة» وباقي التنظيمات الإسلامية. وعليه، يبدو الامتناع السعودي عن الهبوط في مطارات دمشق أو اللاذقية أو حلب مرتبطاً بالسياسة، ولا علاقة له بالامتثال لـ«قانون قيصر»، إذ كانت تستطيع السعودية بسهولة، كما الإمارات، خرْق ذلك القانون، وهي التي «طنّشت» الأميركيين في قضايا أهمّ بكثير، مثل التعاون مع روسيا والصين.
أمّا في ما يتعلّق بقطر، فعلى رغم العلاقة التي تعود إلى بدايات الحرب السورية بينها وبين فصائل مختلفة من المعارضة، والتمويل القطري المعلَن للأخيرة، والذي ساهم مساهمة كبيرة في تدمير مناطق تلك الفصائل، إلّا أن الوجود الإغاثي القطري يكاد يكون معدوماً هناك، في حين أرسلت الدوحة فرق إنقاذ وتعهّدت بإقامة منازل جاهزة للمتضرّرين في تركيا. وحتى الإعلام القطري الذي كان يغطّي مناطق المعارضة السورية خلال الحرب، وكان يُفترض أن يَنقل الصورة منها بعد الزلزال، مثل قناة «الجزيرة»، حجب التغطية إلى حدّ كبير، بسبب العلاقة الخاصة بين الدوحة وأنقرة. وعمد مذيعو القناة المذكورة إلى مقاطعة حديث كلّ مَن ينتقد لا عدالة توزيع المساعدات من القائمين على أعمال الإنقاذ في الشمال السوري، والذين أجمعوا على تظهير الأمر، في حين كانت التغطية على الجانب التركي متواصلة على مدى 24 ساعة، لحظة بلحظة، وشاملة لكلّ المناطق المتأثّرة. وبالتالي، ظلّت أخبار ما يجري على الجانب السوري مطمورة مع الضحايا تحت الركام.
في ما يتعلّق بالكويت التي أعلنت حكومتها مساعدة بقيمة 30 مليون دولار لسوريا وتركيا، فقد اعتمدت المسار السعودي نفسه، بإرسال المساعدات الإغاثية إلى الجانب التركي، في انتظار سماح تركيا بوصول جزء منها إلى الجانب السوري، لتخفيف الإحراج عن الحكومات الخليجية التي تعرّضت لحملة عنيفة على وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب عدم وصول المساعدات إلى ذلك الجانب، وهو ما يبدو أن أنقرة بدأت تتفهّمه، إذ نُقل عن مسؤول تركي قوله إن بلاده تناقش فتْح معبر لإيصال المساعدات إلى المناطق السورية المتضرّرة. إلّا أن ما لا تستطيع التحكّمَ به الكويت هو التبرّعات الشعبية التي انطلقت حملات جمْعها، والتي سيجد أغلبها طريقه إلى الشمال السوري، بسبب العلاقة التي يرتبط بها الكثير من أعضاء مجلس الأمّة والناشطين الكويتيين بمقاتلي المعارضة. والدور التركي في منْع إيصال المساعدات إلى سوريا كان جلياً، من خلال قرار إغلاق معبر باب الهوى بين البلدَين بُعيد وقوع الزلزال، بحيث توقَّف إيصال المساعدات، حتى التي كانت قد وصلت إلى الجانب التركي قبل الحدث، إلى أن أفرجت أنقرة قبل يومَين عن ستّ شاحنات تحمل بعضاً من تلك المعونات.
وحدها الإمارات كانت متحرّرة من تلك الحسابات في تعاملها مع الزلزال، لأن أبو ظبي لم تتورّط من الأساس في الحرب السورية إلّا لَماماً، لأسباب خاصة بها، كما أنها استأنفت علاقاتها مع دمشق منذ سنوات، وهي تملك مرونة للقيام بخرق العقوبات الأميركية. ونتيجة ذلك، تمكّنت من إرسال مساعدات مباشرة عبر مطار دمشق في وقت مبكر، وظهرت سياسياً بمظهر مَن يستطيع الاستجابة لنداء «الإخوة»، ونالت مديحاً من الحكومة السورية المعنيّة مباشرة بالكارثة. وبدا إطلاق ما سمّته أبو ظبي عملية «الفارس الشهم» لإغاثة سوريا وتركيا، مُوجَّهاً إلى دول الخليج الأخرى، ولا سيما السعودية التي تمرّ العلاقات معها بأزمة، بقدر ما هو موجّه إلى الرأي العام العربي، وتحديداً الداخل الإماراتي المتململ من إهانة التطبيع مع الاحتلال. ولعلّ هذا ما عكسه الأكاديمي الإماراتي، عبد الخالق عبدالله، حين قال لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية إن دبلوماسية المساعدات الإنسانية، ستمهّد للدبلوماسية السياسية التي تسعى لعودة سوريا إلى الجامعة العربية.