حلب، التي كانت تحاول خلال السنوات الأخيرة استعادة مكانتها كعاصمة اقتصادية للبلاد، بَقيت صور أحيائها المدمَّرة ومنازلها المهدَّمة تذكِّر زائريها بما عانتْه المدينة من آلام وظروف صعبة جرّاء المعارك القاسية التي شهدتْها بين عامَي 2012 و2017. ومع ذلك، فإن القدَر لم يُمهل سكّانها ليلتقطوا أنفاسهم ويرتاحوا قليلاً من سنوات عذاب، غاب فيها أبسط مقوّمات البقاء والحياة، فجاءت تأثيرات الزلزال الأخير لتعيد إنتاج حلقة جديدة من الألم والمعاناة لأبناء أقدم مدينة مأهولة في التاريخ. فالمدينة التي كان وسطيّ معدّل البطالة فيها خلال الفترة الممتدّة بين عامَي 2002 و2010 حوالي 4.9%، أصبح 26.2% من القادرين على العمل فيها ضمن صفوف البطالة.
باتت حلب منكوبة بكلّ ما يترتّب على هذه التسمية من إجراءات وأوصاف (أ ف ب)

الأكبر بين المحافظات
على رغم ما أصابها بفعل الحرب، وما شهدتْه من حركة نزوح كبيرة، إلّا أن حلب بقيت تتصدّر المحافظات السورية بحجم سكّانها، الذين تَجاوز عددهم بحسب البيانات الرسمية الصادرة أخيراً حوالي 4 ملايين نسمة، مُشكّلين بذلك ما نسبته 17.9% من إجمالي عدد سكّان البلاد المقدَّر في عام 2020. ومقارنة مع عدد سكّانها في عام 2010، والبالغ آنذاك حوالي 4.6 ملايين نسمة، فإن عقْد الحرب المشار إليه تسبّب بانخفاض معدّل النموّ السكّاني فيها بحوالي 1.49%، إلّا أن حسابات الباحثين تذهب إلى القول إنه وعلى رغم استمرار مؤشّرات الأزمة، فإن عدد سكّان المحافظة سيبلغ في عام 2025 حوالي 4.4 ملايين نسمة.
تنقّلت حلب، خلال الفترة الممتدّة من عام 2011 إلى عام 2020، بين مرحلتَين وفقاً لمؤشّرات حركة السكّان. ففي المرحلة الأولى، الممتدّة بين عامَي 2011 و2014، جاءت في مقدّمة المحافظات المصدِّرة للسكّان، وذلك على خلفيّة حركة النزوح الكبيرة التي شهدتها بعد دخول الفصائل المسلّحة إلى بعض أحيائها، نحو المحافظات الأخرى الأكثر أمناً وإلى دول الجوار، مُسجِّلةً في تلك الفترة معدّل نموّ سكّاني سالباً قدره 2.28%. أمّا في المرحلة الثانية، الممتدّة بين عامَي 2015 و2020، فقد تراجَع هذا المعدّل إلى -0.81%، وذلك مع عودة كثير من النازحين إلى مناطقهم وأحيائهم في المحافظة، على رغم استمرار النزوح من مناطق ريفية فيها جرّاء الاحتلال التركي لبعض المناطق الحدودية.
بالمجمل، فإن حلب تأتي في المرتبة الثالثة لجهة عدد الأُسر النازحة منها، والتي بلغت وفقاً للمسح الديموغرافي الرسمي الذي نُفّذ في عام 2018 حوالي 46.4 ألف أسرة، فيما بلغ عدد الأُسر المقيمة فيها حوالي 34 ألفاً، وعدد الأُسر النازحة التي عادت إلى أماكن سكنها الأصلي، حوالى 5.5 آلاف. لكن وفقاً لعدد الأشخاص المغادرين للمحافظات، فإن حلب جاءت أوّلاً بحوالي 1.4 مليون شخص، وفي المرتبة الثانية لجهة عدد الذين دخلوا إليها، والذين قَدّرهم المسح المذكور بحوالي 900 ألف شخص. وبحسب ما يؤكد استشاري تنموي، فإن «حلب تراجعت بشكل كبير، كما كلّ سوريا، بالقيمة المطلقة، ولكنها تراجعت نسبياً بالنسبة إلى الاقتصاد الوطني وإلى باقي المحافظات. ومنذ عام 2019، ليست لدينا مؤشّرات رسمية جديدة، ولكن كلّ المؤشّرات الأخرى تسير إلى المزيد من التراجع وليس التحسّن. والآن، جاء الزلزال ليضرب الاقتصاد الحلبي ضربة قوية جديدة».

انعدام الأمن الغذائي
عاشت المحافظة أيّاماً سوداء وصعبة للغاية نتيجة الحصار والمعارك، وظلّت مناطقها تشهد متاعب في ظلّ التهديدات التركية المستمرّة باحتلال أجزاء منها. وعلى رغم انفراج الأوضاع نوعاً ما مع سيطرة وحدات الجيش السوري على الأحياء الشرقية من المدينة وأجزاء واسعة من الريف، إلّا أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها البلاد منذ ثلاثة أعوام، والناجمة عن مجموعة من المتغيّرات الداخلية والإقليمية والدولية، وأبرزها العقوبات الأميركية المفروضة بموجب «قانون قيصر»، تركت بصماتها الواضحة على حياة سكّان المحافظة. وهذا كان له الأثر الأكبر في تفاقُم تأثيرات الزلزال، إذ اضطرّ مجدّداً آلاف الأشخاص إلى النزوح عن منازلهم وفقدان مصادر دخْلهم، لتصبح كلّ البيانات السابقة، على بشاعتها، بحاجة إلى تعديل. فما كان يقوله، مثلاً، «المركز السوري لبحوث السياسات» عن معدّل الفقر في حلب بنهاية عام 2019، والبالغ 88%، لم يَعُد دقيقاً لسببَين: الأوّل، ارتفاع معدّلات التضخّم والغلاء بشكل غير مسبوق، وهو ما تأكّد مع مسْح الأمن الغذائي الذي أجرتْه الحكومة السورية بالتعاون مع «برنامج الغذاء العالمي» بنهاية عام 2020، وأشارت نتائجه إلى أن نسبة الأُسر الآمنة غذائياً في المحافظة لا تتعدّى 4.9%، فيما بلغت نسبة العوائل المُهدَّدة بفقدان أمنها الغذائي حوالي 32.9%، وتالياً فإن حوالي 62% من الأُسر تعاني انعداماً شديداً أو متوسّطاً في أمنها الغذائي؛ والسبب الثاني يتمثّل في الخسائر الاقتصادية المترتّبة على الزلزال، والتي لم تُعرف بعد.
عاشت المحافظة أيّاماً سوداء وصعبة للغاية نتيجة الحصار والمعارك


الأمر نفسه ينطبق على واقع الخدمات العامّة في المحافظة من سكن وبُنى تحتية، والتي جاء الزلزال ليزيد من حدّة مشاكلها ويُضاعف من عجزها عن تلبية احتياجات السكّان. فإذا كانت الحرب قد ألحقت أضراراً، كلّية أو جزئية، بحوالي 38% من الوحدات السكنية في حلب، وحوالي 59% من بناها التحتية، فإن الزلزال الأخير أضاف همّاً جديداً، سواء مع المنازل والمنشآت التي انهارت خلال الأيام التي أعقبت الكارثة، أو تلك التي باتت مهدَّدة بالانهيار، وتالياً غير صالحة للسكن، ولا سيما أن البيانات الحكومية تُظهر أن عدد التجمّعات العشوائية التابعة إدارياً لمدينة حلب داخل المخطّط التنظيمي للمدينة، بلغت حوالي 22 منطقة، تمتدّ على مساحة قدْرها 3320 هكتاراً، ويقيم فيها حوالي 865 ألف نسمة وفق تقدير البلدية لعام 2011، وقد بدأت تلك التجمّعات بالنشوء في فترات زمنية مختلفة، منها ما قبل عام 1970 مثل الشيح خضر، المالكية، الشيخ سعيد، حندرات، المنطقة الجنوبية وتوسّعها، تل الزرازير، أنصاري غربي، كفر داعل، خان العسل والدوبرينة، ومنها ما بين عامَي 1970 و1990 من قبيل: العويجة، الحيدرية، عين التل، الشيخ فارس، توسع الأشرفية والشيخ مقصود، الشيخ نجار، جبل بدرو، المعصرانية، كرم الجزماني، النيرب والأنصاري.

اغتراب
بعد السادس من شباط، لم تَعُد حلب تُعرف فقط بكونها أقدم مدينة مأهولة في العالم، أو عاصمة البلاد الاقتصادية، أو بأن مرض اللاشمانيا صَنع حبّتها الشهيرة والمؤلمة، أو بأنها أوّل مدينة سورية تحوّلت إلى شرقية وغربية في زمن الحرب. فهي، وبدءاً من ذلك اليوم، باتت محافظة منكوبة بكلّ ما يترتّب على هذه التسمية من إجراءات وأوصاف. فهل سيطول اغتراب حلب عن تاريخها؟