تتصرّف قطر في استجابتها للزلزال السوري - التركي، كما لو أن الحرب السورية ما زالت في أوْجها، وتبدو أسيرة لحسابات حليفها الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الذي يواجه انتخابات رئاسية صعبة في أيار المقبل، وستُمثّل إدارة حكومته لعملية الإغاثة، عنصراً حاسماً فيها، ما يدفعه إلى حرمان الضفة السورية من الحدود من حصّتها العادلة من المساعدات وتوجيهها إلى الجانب التركي سعياً إلى إرضاء الناخبين. وإذ تُعتبر الدوحة معنيّة بفوز إردوغان، فإن إدارة المعونات أحرجتْها أمام السوريين والرأي العام العربي، وربّما هذا ما حمَل أميرها، تميم بن حمد، على زيارة أنقرة، لتَدخل بعد ذلك طلائع تلك المعونات إلى سوريا
شكّلت دبلوماسية المساعدات القطرية مثالاً للانقسام الذي ما زالت قضية سوريا تثيره في العالم كلّه، لا العربي وحده، تماماً مثلما كان للدوحة دور أساسي في الانقسام الذي أثارته الحرب السورية قبل 12 عاماً. فعلى الطريق نفسه الذي سارت عليه الأموال القطرية التي جرى ضخّها في الحرب لشراء أسلحة ودفْع رواتب المقاتلين، أي عبر تركيا إلى شمال سوريا، انطلقت المساعدات القطرية لضحايا الزلزال الذي ضرَب البلدَين معاً، فوصلت أوّلاً إلى تركيا التي نالت منها ما نالت، قبل أن تصل طلائعها إلى سوريا بعد ثمانية أيام كاملة، حين لم يَعد ممكناً العثور على ناجين. وفي الموازاة، توحي التغطية الإعلامية القطرية للكارثة، وخاصة التي تبثّها قناة «الجزيرة»، وكأن الحرب السورية ما زالت في أوْجها، مع تركيز كبير على الجانب التركي، وإفراد لبعض المساحة لشمال غرب سوريا، وتجاهُل للمناطق السورية المنكوبة الأخرى، في ما يمثّل استغلالاً سياسياً فاضحاً، وخاصة أن المتضرّرين في سوريا اضطرّوا إلى الانتظار كلّ هذه المدّة، حتى يرخي الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبضته عن بعض المعونات الموجَّهة إلى سوريا، ويسمح بنقلها فعلاً إلى المنكوبين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية المسلّحة، ولا سيما «هيئة تحرير الشام».
كان يمكن للموقف القطري أن يكون أكثر توازناً، ولا سيما أن سياسة المقاطعة الكاملة للنظام السوري، لم تَعد واقعية منذ أن انتهت الحرب فعلياً، بهزيمة مشروع المعارضة الذي هَزم نفسه قبل أن يَغلبه أحد. فالسياسة القطرية، المرنة عادة، والتي تَجمع التناقضات، ما زالت في ما يتعلّق بسوريا كأننا في اليوم الأوّل للحرب، علماً أن الدولة المحورية التي كانت الدوحة تسير خلفها في تلك الحرب، وهي تركيا، فتحت قنوات عديدة للاتّصال مع دمشق، إلى الحدّ الذي صار يُحكى معه عن إعادة تطبيع العلاقات بين الجانبَين بشكل كامل. هل هو خلل في الدبلوماسية القطرية إذاً، أم أن موقف الدوحة يتأثّر في النتيجة بالسياسة الأميركية التي تقوم على استمرار الضغط على النظام السوري، بسبب تموضعه الإقليمي وتحالفه مع إيران وروسيا، وخصوصاً أن الحرب الأوكرانية تسوّغ، بنظر الأميركيين، تشديد الضغط على هذا النظام (وعلى عموم الشعب) من خلال العقوبات الخانقة؟ لكن حتى لو كانت هذه هي الحال، فواشنطن نفسها سبق أن تفاوضت بشكل غير مباشر مع دمشق، واضطرّت تحت الإحراج إلى تعليق بعض العقوبات على سوريا لمدّة 180 يوماً، وللإعلان عن أن العقوبات أصلاً لم تكن عائقاً أمام وصول المساعدات الإنسانية إلى المتضرّرين، في أيّ من المناطق السورية، ما دفع بكثير من الدول إلى التجرّؤ وإرسال مساعدات إلى مناطق النظام.
وقعت قطر أسيرة الميل التركي المفهوم نحو احتكار المساعدات وجهود الإغاثة


الدبلوماسية القطرية هذه المرّة كانت أسيرة الميل التركي المفهوم نحو احتكار المساعدات وجهود وفود عمّال الإغاثة التي أتت من كلّ أنحاء العالم، والتي كانت أمام خيارَين: إمّا أن تساعد في تركيا حصراً وإمّا أن لا تساعد، فأخذت الخيار الطبيعي في هذه الحالة، وهو المساعدة في الأولى، ولا سيما أن تركيا أكثر تأثّراً بالحدث. إلّا أنه بالتزامن مع وصول أمير قطر، تميم بن حمد، إلى أنقرة للقاء إردوغان، بدأت بعض المساعدات، وتحديداً القطرية والسعودية والكويتية، تَدخل إلى الشمال السوري. وهذا يشير إلى مدى الإحراج الذي وصلت إليه تلك الدول التي اختارت عدم إرسال المعونات إلى مناطق سيطرة النظام (وإنْ كانت الرياض عدَلت عن موقفها لاحقاً)، في ظلّ الحملات التي استهدفت حكوماتها على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي النتيجة، صارت المساعدات التي تحمل ما يدلّ على أنها قطرية، تَظهر في مناطق الشمال السوري، وكذلك فِرق الإنقاذ التابعة وخصوصاً لـ»الهلال الأحمر القطري» مع عياداته المتنقّلة، وخِيم الإيواء والحصص الغذائية والمعدّات الطبّية. ولكن التعطّش إلى مختلف أنواع الإغاثة على الجانب السوري من الحدود كبير جداً على نحو قد لا تفي معه طلائع المساعدات بالغرض، ويتطلّب فتْح تركيا الأبواب على مصراعَيها لدخول المساعدات إلى تلك المنطقة، وهو أمر أقلّ ما يقال فيه إنه غير مضمون، نظراً إلى حجم الكارثة على الجانب التركي، ولتصرّف السلطات التركية في الأيام الأولى للزالزال. فعلى سبيل المثال، ذكرت إحصائية نشرها حساب باسم «شبكة أهل قطر الأولى» على «تويتر»، أمس، أن المساعدات القطرية التي وصلت إلى شمال سوريا للإيواء بلغت 1673 خيمة، يستفيد منها 6548 شخصاً مع مستلزمات مِن مِثل العوازل والناموسيات وأحزمة الإيواء، فيما بلغ عدد الحصص الغذائية 5559 حصة يستفيد منها 22236 شخصاً، و12 ألف وجبة ساخنة وغيرها، وهي أيضاً مساعدات طفيفة بالنظر إلى أن المتضرّرين يُعدّون بالملايين.
وعلى رغم الإحراج الذي تسبّبت به تركيا لقطر، باعتبارها دولة عربية لا يمكنها اتّخاذ موقف اللامبالاة إزاء السوريين، وخصوصاً أولئك الذين تتحمّل مسؤولية أدبية عن معاناتهم نتيجة دورها في الحرب، إلّا أن الدوحة معنيّة في المقابل، بإعادة انتخاب إردوغان رئيساً للجمهورية في انتخابات أيار المقبل، لأن قيادته لتركيا عنصر مركزي في السياسة القطرية في عموم المنطقة، ولا تُنسى خصوصاً إقامتها قاعدة عسكرية في الإمارة أثناء «حصارها» من قِبل الرباعي العربي، وأيضاً مساهمتها مع إيران في التعويض عن النقص الغذائي الذي تسبّب به ذلك «الحصار». فالاستجابة للزلزال التي تعرّضت لانتقادات شديدة من الأتراك في أيامها الأولى، ستكون عاملاً حاسماً في الانتخابات، وخاصة أن حكومة إردوغان تتحمّل مسؤولية عن عدم فرْض تجهيز المباني لمقاومة الزلازل على رغم وقوع البلاد على خطوط الصدع، وهو ما لا يكفي معه إلصاق التهمة بمقاولي بناء فاسدين ممّن تَجري ملاحقتهم حالياً. وممّا يزيد الوضع تعقيداً حالات الانفلات الأمني وعمليات السرقة التي انتشرت في بعض المناطق المنكوبة، ودفعت بعدد من فِرق الإغاثة إلى تعليق أعمالها لبعض الوقت.