حلب | لم يستطع الشابّ الأربعيني، حسام المصري، حبْس دموعه، على رغم محاولاته خنْقها عند سؤاله عن حال بيته في حيّ العقبة في مدينة حلب القديمة، التي لم تُشفَ بعد من آثار الحرب، ثمّ جاء الزلزال ليزيد وضعها سوءاً ويُعمّق الضرر اللاحق بالمدينة التاريخية المدرَجة على لائحة التراث الإنساني لمنظّمة «اليونسكو». يروي المصري بكثير من الحرقة والألم كيف انهار المبنى الذي يقطنه والمؤلَّف من ثلاثة طوابق على الأرض، لتتشرّد جميع العائلات التي تَقطنه إمّا عند أقاربها أو في الجوامع أو المدارس المصنَّفة مراكز إيواء. يقول لـ«الأخبار»: «نحمد الله، تمكّنتُ من النجاة مع ابنتي الصغيرة وزوجتي، لكن لم يبقَ لدينا شيء نملكه، واليوم نحن لا نطلب من الجهات المعنيّة مواد إغاثية، وإنما السؤال عنّا ومعرفة مصيرنا بعدما أصبحنا بلا مسكن». وعلى رغم مُصابه الكبير، يرفض حسام ما يُعرَض عليه من مساعدات مالية لتدبّر أموره، إلى حين النظر في أوضاع جميع المنكوبين الذين انهارت مساكنهم، قائلاً: «نحن لا نريد حسنات وإنْ كُنّا نشكر أهل الخير لمساعدتهم، لكن نحتاج إلى معالجة وضعنا والنظر في حال عشرات آلاف الأسر المنكوبة... هل سنبقى مشرَّدين من دون إيجاد حلول تنقذنا من واقعنا المأساوي؟».نكبة حسام في بيته تكاد تنسحب على جميع منازل حيّ العقبة، الذي يضمّ قرابة 300 عائلة أصابها جميعاً ضرر الزلزال. يروي جاره كيف استطاع في اللحظات الأخيرة إنقاذ أفراد عائلته وخاصة أطفاله وأمّه المقعَدة، التي حمَلها على ظهْره وركض بها إلى الشارع قبل انهيار المبنى، في حين حمَل أخوه أطفاله ولاذوا بالفرار تاركين كلّ شيء خلْفهم. يَلفت إلى أنه يسعى حالياً إلى استخراج ما ادّخره طيلة سنوات من مال وذهب من تحت الأنقاض حتى يستطيع مواجهة آثار الكارثة، مشيراً إلى أنه لا يستطيع العيش في مراكز الإيواء بالنظر إلى حال والدته، ولذا فهو يسكن حالياً مع عائلته في غرفة لأحد الأقارب في منطقة قريبة من حيّ العقبة، الذي يحاول سكّانه، سواء الذين تَهدّمت بيو تهم أو تصدّعت، إخراج «العفش» منها وما تيسّر لهم من «مونة الشتوية» علّها تُخفّف عنهم. وعلى رغم ما يرافق هذه العملية من خطورة، إلّا أن رجال الحيّ لا يأبهون لذلك، خصوصاً أن شراء أثاث جديد اليوم يستلزم أموالاً طائلة لم تَعُد أغلبية الحلبيين تمتلكها، كما يقولون.
من جهتها، الشابّة الثلاثينية نهى عقيل، وهي أمّ لابنتَين وولد كانت تعيش في المبنى ذاته مع عدد من أخواتها المتزوّجات، قبل أن يُلقي بهنّ الزلزال في مركز إيواء «جامع الشعبية»، الذي يُعدّ أقدم جامع في حلب، تروي لـ«الأخبار» التي التقتْها هناك، كيف نجت بأعجوبة هي وعائلتها من موت محقَّق، عبر الخروج من نافذة البيت الذي هو عبارة عن «حوش عربي»، مبيّنةً أن لحظات قليلة فقط فصلت بين انهيار المنزل وخروجها منه، قائلةً إن «إرادة الله كانت كفيلة بإنقاذها والظفر بحياة جديدة لا تعرف ماذا تفعل لمواجهتها بعد فقْد كلّ شيء بسبب الزلزال». وتُطالب نهى، باسم العائلات المقيمة في الجامع والمُقدَّرة بحوالي 30، بتأمين احتياجات المشرَّدين، والسعي نحو إيجاد مساكن بديلة لهم.

الاحتياجات متعدّدة وجمّة
يفيد عضو لجنة حيّ العقبة المنكوب، المختار السابق محمد غازي المصري، بأن هناك أكثر من مئة عائلة متضرّرة بشكل كلّي، عدا الضرر الجزئي، ما يجعل هدْم الحيّ أمراً مفروغاً منه، خاصة أن الأبنية المتبقّية متصدّعة. ويطالب المصري الجهات المعنيّة بالنظر في حال «العقبة»، لافتاً إلى أن أيّ جهة رسمية لم تأتِ إلى الآن للسؤال عن أوضاع الأهالي المتضرّرين، باستثناء مَن أتوا في الأيام الأولى بعد الكارثة حيث جرت إزالة الأنقاض وإخلاء الضحايا والناجين من تحتها. ويدعو إلى الإسراع في فحْص الأبنية المتصدّعة تمهيداً لهدمها كي لا تشكّل خطراً على الأحياء المجاورة، والسماح للأهالي بالبناء من جديد في حال عدم تأمين مساكن بديلة مؤقّتة لهم. كما يدعو إلى إيجاد حلول سريعة لانتشال هؤلاء من واقعهم المأساوي، معتبراً أن تركيز الجهود على العمل الإغاثي لا يكفي في المستقبل البعيد؛ «فالشعب السوري الذي لم يلتقط أنفاسه منذ أحد عشر عاماً، لا يرغب في تحويله إلى شعب اتّكالي تُقدَّم له الإعانات بصورة مستمرّة»، مشدّداً على أن «المطلوب وضْع خطّة لإيجاد مساكن بديلة وتعويض المتضرّرين لتمكينهم من مواصلة حياتهم».

الأسواق لم تَسلم
ليس «العقبة» الوحيد المتضررّ في مدينة حلب القديمة، بل ثمّة أضرار كبيرة لحقت بالأحياء المجاورة أيضاً، كحيّ الجلوم. من بين أهالي هذا الأخير، تطالب سيّدة ستّينية، التقتْها «الأخبار» في مركز الإيواء في «جامع الشعبية» الذي لجأت إليه مع بناتها وأحفادها بعد أن تصدَّع بيتها بشكل كبير ولم يَعُد صالحاً للسكن، بتأمين المواد الإغاثية وتوفير الأدوية للمنكوبين، خصوصاً أنها هي مُصابة بداء السكّري وتحتاج إلى عناية مستمرّة. أيضاً، شمل ضرر الزلزال أسواق مدينة حلب التي رُمّمت أخير كسوق الأحمدية، حيث انهار بشكل شبه كامل مقهى «السماك» الأثري، و«قيصرية الجلبي» المعروفة، إضافة إلى «خان التتن» التاريخي، فيما تصدَّع أحد محالّ سوق السقطية، وأصاب ضررٌ خفيف المسجد الواقع وسط سوق الحرير، ومِثلُه الجامع الأموي. في المقابل، انهار بناء متصدّع بسبب الحرب في نهاية سوق الحرير، وسُوّي بالأرض تماماً وسط أبنية ستواجه المصير ذاته. مع ذلك، بدأ أصحاب المحالّ التجارية سريعاً في إعادة إعمار وترميم ما تضرّر لديهم، في ما يؤكد «إرادة الحياة رغم كلّ المصائب»، كما يقول لـ«الأخبار» المقاول فراس صيداوي، الذي كان يشرف على جرْد الأضرار.