هنا، يبدو الوجع أكبر من أن تَصفه كلمات، أو أن تُعبّر عنه أرقام وبيانات، أو أن تُصوّره عدسة كاميرا. هنا، يصبح الموت أرحم بكثير من حياة يموت فيها كثير من سكّان هذه المحافظة كلّ يوم ألف مرّة بحثاً عن لقمة عيش أو مأوى. فالمحافظة الشمالية الخضراء، التي كانت قبل الحرب تتوسّط عقْد المحافظات السورية بعدد سكّانها البالغ آنذاك 1.4 مليون نسمة، لا تزال إلى اليوم من بين المناطق القليلة الحاضرة على خريطة المواجهة العسكرية، وتالياً غياب الأمن والاستقرار، وما يجرّه ذلك من ويلات ومعاناة على المدنيين الأبرياء المقيمين في مدن إدلب، والذين تتباين التقديرات حول عددهم اليوم. ففي الوقت الذي تقدّر فيه المؤسّسات غير الحكومية في الداخل السوري عددهم، وفق سيناريو استمرارية الأزمة، بحوالى 1.1 مليون نسمة عام 2020، تذهب تقديرات «المركز السوري لبحوث السياسات» إلى وجود ما يقرب من 2.3 مليون نسَمة، منهم 1.1 مليون مصنّفون كنازحين، مع الإشارة إلى أن هناك بيانات تبالغ في العدد المقدَّر للسكّان لاعتبارات وحسابات سياسية واقتصادية.قبل كارثة الزلزال، كانت الصور الذهنية المترسّخة عن إدلب في عقول السوريين، تبدو متباينة إلى درجة عميقة، أو لِنَقل إنها كانت صنيعة المواقف السياسية. فالمحافظة، في نظر شريحة واسعة، مجرّد معقل لـ«الجهاديين» عابري الجنسيات والمسلّحين المدعومين من قطر وتركيا، ومنفى لرافضي التسوية مع الحكومة؛ وفي نظر شريحة أخرى، الوحيدة «المُحرَّرة» من قبضة «النظام»، سواءً المدينة نفسها أو جزء ليس بالقليل من ريفها. إلّا أن انهيار مئات المنازل فوق رؤوس ساكنيها، وخروج الآلاف من منازلهم في حلب، إدلب، اللاذقية، وحماة، في فجر السادس من شباط، في الوقت نفسه، وحّد من جديد قلوب السوريين المنهَكة، وأسقطَ تلك الصور الذهنية لتحلّ محلّها أخرى عبّرت عنها دعوات المساندة والتعاضد.

منهَكة في كلّ شيء
منذ خروج المحافظة عن سيطرة الحكومة، مدينة وريفاً، والمؤشّرات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية المتعلّقة بحياة السكّان، كثيرة ومتشعّبة، بعضها يحظى بموثوقية بناءً على المنهجيات العلمية المستخدَمة في إنتاجها والجهات المنتِجة لها كالمنظّمات الأممية وبعض المؤسّسات ذات الطابع الإنساني والبحثي غير المسيّس، وبعضها الآخر غير موثّق لاعتبارات قد تتعلّق بحجم المساعدات الإغاثية المراد الحصول عليها أو لاستخدامها في مخاطبة الرأي العام العالمي في مواجهة الحكومة، أو لتجميل صورة الفصائل المسلّحة المسيطِرة على المنطقة.
في يوميّات سكّان تلك المناطق، كثير من المعاناة والقسوة. إذ إن معظم الأسر هناك تعيش أوضاعاً صعبة، زادت منها تأثيرات الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد منذ ثلاثة أعوام، والتي لم تفرّق بين مناطق سيطرة الحكومة ومعاقل المعارضة، وإنْ اختلفت نسبتها وشدّة تأثيرها. وإذا كانت التقديرات البحثية تحدّثت عام 2019 عن تحوُّل 90% من سكّان المحافظة إلى فقراء، فإن بعض المؤشّرات المنشورة في شهر تموز الماضي تجزم بتعمّق حالة انعدام الأمن الغذائي من خلال اضطرار 53% من الأُسر إلى تخطّي الوجبات أي عدم تناوُلها جميعاً، أو تقليل حجمها كما فعلت 47% منها، وذلك كنتيجة مباشرة لنقص الغذاء أو عدم القدرة على الحصول عليه. وهذا تزامَن أيضاً مع اعتماد الأُسر على استراتيجيات مواجهة ليست بأقلّ قسوة، من قَبيل اللجوء إلى طعام أقلّ جودة كما فعلت 86% من المجتمعات المبحوثة في إدلب، أو اقتراض المال (84%)، أو استخدام المال المخصَّص لأشياء أخرى لشراء الطعام (64%). كيف لا، والتقديرات البحثية الصادرة أخيراً تتحدّث عن تصدُّر إدلب المحافظات السورية لجهة خطّ الفقر المدقع للأُسرة، والمقدَّر في شهر حزيران من عام 2022 بما يزيد على مليون ليرة، في حين أنها جاءت خلْف دمشق وفقاً لتصنيف خطّ الفقر الأعلى، والذي بلغ فيها حوالى 2.182 مليون ليرة؟
منذ خروج المحافظة عن سيطرة الحكومة، والمؤشّرات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية كثيرة ومتشعّبة


والوضع الصحّي ليس بأفضل حال، على رغم النشاط الكثيف للمنظّمات والعمل الأممي في هذا القطاع. فإلى جانب النقص الحاصل في الخدمات والاحتياجات الصحّية لمعظم مناطق المحافظة، وهي خدمات زادت تكاليفها من حوالى 45% في كانون الثاني من عام 2022، إلى 59% في شهر تموز من العام نفسه، تَحضر صعوبات عديدة تُعيق وصول الأسر إلى المرافق الصحّية. فمثلاً، 76% من المجتمعات اشتكت من ارتفاع تكلفة النقل إلى المرافق الصحّية، و75% تعاني أثناء محاولتها الحصول على تلك الخدمات، من نقْص وسائل النقل. وفي ضوء ما تَقدّم، يمكن توقُّع حجم العجز الذي وقع مع الأيام الأولى بعد الزلزال، الذي لعب الموقع الجغرافي لإدلب القريب من مركزه دوراً مباشراً في حجم الدمار الحاصل فيها، وساعده في ذلك انتشار التجمّعات السكنية العشوائية والريفية المقامة خلال فترة الحرب على أراض زراعية وداخل المدن والقرى، التي تعاني أساساً غياب اشتراطات البناء السليم والآمن. والجدير ذكره، هنا، أن إدلب كانت ثاني أقلّ محافظة في التجمّعات العشوائية قبل الحرب، وعددها آنذاك لم يتجاوز أربع مناطق من بين 157 منطقة على مستوى البلاد.

أحلام لا تموت
في مناطق هذه المحافظة، التي تخضع اليوم لسيطرة «هيئة تحرير الشام» أو «جبهة النصرة» (سابقاً)، ثمّة أحلام كبيرة لأبنائها، على رغم قسوة الظروف المادّية والاجتماعية وغياب الأمن والاستقرار. فهناك مثلاً، فتيات أعمارهنّ ما بين 13 و15 عاماً يطمحْن إلى أن يصبحْن في المستقبل معلّمات، صيدلانيات، طبيبات. إلّا أن طموح بعضهنّ كان أبعد من ذلك، حيث قلْن في مسْح عن اليافعين أجراه أخيراً «المركز السوري لبحوث السياسات» إنهنّ يرغبن في العمل كرسامات أو صحافيات أو مصفّفات شعر. لا بل إن هوايات بعضهن تبدو متمرّدة على الواقع أو لِنَقل معاكِسة للصورة العامّة المترسّخة عن المحافظة بعد سيطرة «النصرة» عليها؛ فهناك فتيات لديهنّ ميول كالموسيقى، الرياضة، الغناء، الرسم، بينما أخريات يُحببْن قراءة القرآن والاستماع إليه. أمّا الفتيان من الفئة العمرية نفسها، فمنهم من يودّ أن يصبح مهندساً للمساهمة كما يقول في إعادة إعمار بلده، ومنهم مَن يرغب في أن يصبح نجاراً أو طبيباً أو معالجاً فيزيائياً، بينما ثمّة سِمتان مشتركتان بين أفراد هذه الفئة العمرية من الذكور، وهما اهتمامهم بالرياضة وحبّ الطبيعة. لكن ما بين الحلم وما بين واقع المحافظة الشمالية، فجوة تتّسع عاماً بعد عام بسبب الفقر، وقلّة سُبل العيش وفُرص العمل المتاحة، وفقدان الأسرة لمعيلها. لكن، هل تلك الأحلام بقيت كذلك بُعيد الزلزال الأخير؟ وهل ما زال أصحابها أصلاً على قيد الحياة؟