حلب | اضطرّت خولة قصاب، أرملة وأمٌّ لطفلتَين، للعودة إلى غرفتها الواقعة على سطح بيت أهلها في منطقة الجلوم الكبرى المنكوبة، حيث البيوت قديمة الإنشاء ومهدّدة بالسقوط في أيّ لحظة فوق رؤوس قاطنيها. ولم تجد خولة خياراً سوى السكن في هذه الغرفة، التي انهار أحد جدرانها بفعل الزلزال، «وحتى لا نضطرّ إلى نصب خيمة في الشارع كما فعل غيرنا. ولكننا بسبب الخوف، وخاصّة بعد وقوع الزلزال الثاني، ننام في جامع التينة القريب». وتضيف، في حديث إلى «الأخبار»، أن «ستّ عائلات يعيشون في المنزل مع أمّنا، بعد تضرّر أغلب بيوت أخواتي في مناطق مختلفة من حلب، وقد أصلحنا الضرر الذي طال البيت حتى نتمكّن من الإقامة فيه، بعدما لم تأتِ أيّ جهة لتسأل عن أحوالنا»، مطالبةً بتقديم العون للعائلات المتضرّرة في الجلوم. ومن جهتها، تلفت شقيقتها، مروة، إلى أن النساء شاركن الرجال في تعبئة الأنقاض بأيديهنّ في أكياس، بغية تنظيف الشوارع الفرعيّة، حيث تعاون الأهالي معاً للتمكّن من السَيْر بين الحارات الضيّقة.
عيشٌ مع الخوف
اليأس وقلّة حيلة أهالي منطقة الجلوم المنكوبة، في ظلّ غياب أيّ بدائل للسكن، دفعهم للرجوع إلى بيوتهم المهدّدة بالسقوط. ويبدو المنظر مرعباً لدى السيْر في الحارات الضيّقة، حيث يتناثر الدمار وتكثر الأبنية المتهدّمة كليّاً أو جزئيّاً، فيما يعمل الأهالي، الذين تُركوا لتدبُّر أمورهم بأنفسهم، على إعادة تمديد كابلات الكهرباء والاتصالات. ويشتكي الرجل الأربعيني، محمد عقيل، أن أهالي المنطقة «سلّموا أمرهم إلى الله بعدما يئسوا من أحوالهم المتعبة». ويضيف، لـ«الأخبار»: «جرّبت العيش في الخيام لمدّة أربع سنوات حينما اضطرّت عائلتي للانتقال إلى لبنان، لكنّي أجد صعوبة كبيرة في السكن فيها في بلدي. لذا، وجدنا حلّاً وسطاً يقتضي أن نجلس في منازلنا نهاراً وأن نتدبّر أمور عيشنا عبر أكل البطاطا المسلوقة مثلاً، وننام في الجامع القريب ليلاً تفادياً لأيّ هزّة أو زلزال»، مستغرباً تجاهل الجهات المعنيّة والمنظّمات الأهليّة والدوليّة أحوال هذه المنطقة التي يعيش فيها آلاف العائلات.
ويشتدّ المشهد قتامةً حين تُجبَر عائلة مع أطفالها على العيش في بيت تعرّض طابقه العلوي لحريق عند وقوع الزلزال، وقربه بناء تضرّر إبّان الحرب وبات بعد الكارثة مهدَّداً بالسقوط في أيّ وقت. وبحسب زكريا عبد الغني، أحد سكان هذه المنطقة المعروفة بحوش الأغاني، حيث كان الأهالي يقيمون، كل خميس، احتفالات على وقْع الموشحات الحلبية، «نحن مجبرون على العيش في بيوتنا الآيلة للسقوط في ظلّ غياب البدائل، وعدم رغبتنا في السكن في مراكز إيواء أو خيام، علماً أن المساعدات لم تشملنا مع أنّنا من أكثر المتضرّرين»، فيما تطالب سيدة عابرة بين الأنقاض مع طفلتها، بإزالة البناء الواقع وسط الحيّ كونه يشكّل خطراً فعليّاً على المارّة، و«نخشى على أبنائنا وأهلنا عند المرور قربه لأنه قد يسقط في أيّ لحظة».
يشبه التجوال بين بيوت منطقة الجلوم الكبرى، السيْر في حقل ألغام


حقل ألغام
يشبه التجوال بين بيوت منطقة الجلوم الكبرى، السيْر في حقل ألغام. ولكن ذلك لم يَحُل دون وجود الأطفال في الشوارع، ومساعدتهم أهلهم في ترميم الأماكن المتضرّرة. فالطفل فيصل عتيق (14 عاماً) الذي كبر فجأة ليجد نفسه مسؤولاً عن عائلته بعد وفاة والده، كان واقفاً بين الركام يسحب الأخشاب من بيته المتهدّم جزئياً من أجل استخدامها للتدفئة والاستحمام في بيت عمّته، حيث يقيم حالياً ريثما يتمّ إصلاح بيته. ويقول: «تعرّض بيتنا لضرر كبير، وهو بحاجة إلى تدعيم يكلّف ملايين الليرات، لا نملكها، فأنا المعيل الوحيد لعائلتي، أعمل كخياط لأوفّر قوت يومنا، بالإضافة إلى دراستي». ويعتزم فيصل العودة إلى منزله بعد تدعيمه، مطالباً بتقديم المعونة له ولأبناء حارته المنكوبين الذين يعيشون مرعوبين من السكن في بيوتهم المتصدّعة. وتؤكد السيدة الأربعينية، فضيلة مقرش، «(أنّنا) نعيش مع الخوف في بيوتنا، فحينما نشعر بأيّ هزّة ارتدادية، نسارع فوراً إلى بيت جيراننا المقيمين في تركيا، ونتوجّه مسرعين إلى القبو للاحتماء من الزلزال. لكن، وعلى رغم ذلك، يبقى الوضع الحالي أفضل من السكن في مراكز الإيواء. يصعب عليّ الإقامة فيها»، مشيرة إلى أن الجهات المعنيّة كانت تمنع تحريك أيّ حجر من أحجار الحيّ لأنه يقع في منطقة أسوار المدينة القديمة.

تقييم الأضرار
ترْك الأحياء المنكوبة على حالها بعد انهيار أغلب بيوتها، وعدم المبادرة إلى مساندة الأهالي ومعرفة احتياجاتهم، وخاصّة تأمين مساكن بديلة لهم إلى حين إعادة ترميم بيوتهم، التي لها خصوصيتها كونها تقع في المدينة القديمة المدرجة على لائحة التراث العالمي لمنظّمة «اليونسكو»، يطرح الكثير من علامات الاستفهام، وخاصّة مع انتهاء مرحلة الصدمة وضرورة اتّخاذ خطوات عاجلة لمنْع حصول كوارث جديدة. وهنا، يَستغرب شادي شرف الدين، المسؤول عن الملفّ الإغاثي، بقاء الأهالي في بيوتهم المتضرّرة، «إلّا إذا كانت لجان السلامة أكدت إمكانيّة السكن فيها»، رافضاً اتهامات الأهالي بالتقصير، فمحافظة حلب، بحسب قوله، «تحاول تقديم كل المساعدات الممكنة للمتضرّرين، ولا يتم تجاهل أيّ حيّ منكوب أو منطقة متضرّرة، لكن حجم الكارثة كبير والإمكانات قليلة»، داعياً الأهالي للتوجه إلى مراكز الإيواء حفاظاً على سلامتهم. ومن الجدير ذكره أن وفداً من منظّمة «اليونسكو» يزور حلب للاطلاع على الأضرار التي لحقت بالمدينة القديمة وآثارها وأسواقها.