وعلى الرغم من أن مفهوم «عالم فوكا» استخدمه للمرّة الأولى الاقتصاديان وارن بنيس وبيرت نانوس، في كتابهما «استراتيجيات للقيادة»، الصادر في عام 1985، والمخصّص لبحث التحدّيات التي تفرضها العوامل الخارجية المتعدّدة والمتفاعلة على مسؤولي الشركات وعملية إدارتها، فإن الجيش الأميركي «استعار» المفهوم المذكور مع بداية التسعينيات.
فمع انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي وما عناه ذلك من «اختفاء» للعدو الواضح، وحلول مفهوم مبهم وغائم كـ«التهديد»في مكانه، باتت المهمّة الموكلة لهذا الجيش هي بلورة استراتيجيات وخطط للتعامل مع «تهديدات» في ظروف عالمية يسود فيها التقلّب الشديد واللايقين والتعقيد والغموض. كانت واشنطن في موقع القطب الأحادي آنذاك، وارتبط التسليم بدورها من قِبَل حلفائها، بالتزامها برعاية أمنهم ومصالحهم والحدّ من المفاعيل السلبية لـ«عالم فوكا». انحسار نفوذ واشنطن في الإقليم، وبشكل خاص بعد أكثر من عقدَين من النزاعات التي تسبّبت بها عندما غزت العراق ضمن مشروع لإعادة صياغة المنطقة برمّتها، يدفع بعض دوله إلى محاولة السعي لبناء «شبكات أمان» موازية للشبكات الأميركية، أو إحياء تلك التي كانت موجودة وتعطّلت بفعل هذا الغزو. المصالحة السعودية مع سوريا ومع إيران هي ترجمة لهذه التوجّهات المستجدّة.
انحسار نفوذ واشنطن في الإقليم يدفع بعض دوله إلى محاولة السعي لبناء «شبكات أمان» موازية لتلك الأميركية
مشروع إعادة صياغة الشرق الأوسط عنى في ما عنى، إضافة إلى تفكيك بعض دول المنطقة وإعادة بنائها على أسس طائفية وعرقية، تدمير النظام الإقليمي العربي الذي كان قائماً قبل عام 2003، وما ترتّب عليه من علاقات تعاون بين بلدانه، وقطْع علاقات هذه البلدان بإيران، لتشرف واشنطن بعد هذا «الهدم»، على عملية «بناء» طبقاً لمخطّطاتها. أيّ مراجعة لتسلسل الأحداث لا تدع مجالاً للالتباس: غزت الولايات المتحدة العراق في 2003، وبدأ بعد ذلك مسار تدهور علاقات معظم الدول الخليجية مع سوريا، وصولاً إلى القطيعة الكاملة معها في 2005، ومع إيران، التي انقطعت العلاقات معها في مرحلة لاحقة. ما نراه حالياً من تطبيع للعلاقات بين جميع هذه الأطراف يتّصل بهزيمة المشاريع الأميركية في المنطقة وفشلها في إضعاف محور المقاومة، واتّضاح عقم رهان البعض على حماية واشنطن، وكذلك بقرار الأخيرة التفرّغ لأولوية المجابهة مع روسيا والصين. غير أنّ اعتباراً آخر حَكم قرار التطبيع المشار إليه، وهو حاجة جميع دول الإقليم إلى استعادة قدْر معيّن من الاستقرار، والتعاون في ما بينها، للتفرّغ بنجاح أكبر لتحدّياتها الداخلية الاقتصادية والاجتماعية، مع الاختلاف في درجة خطورة تلك التحدّيات من ساحة إلى أخرى.
مشاريع التحديث الاقتصادية والتكنولوجية في السعودية تحتاج إلى استقرار لجذب المستثمرين، والأمر نفسه ينطبق على الإمارات. إيران تحتاج إلى الاستقرار لمواجهة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية لسنين طويلة من الحصار والضغوط الأميركية المختلفة. والأمر بطبيعة الحال ينطبق بقوّة أكبر على سوريا لإعادة إعمار ما دمّرته الحرب التي تعرّضت لها. ولا شكّ في أن تأمين شروط استقرار مستدام، لا ينهار بفعل هزّات أمنية أو تطوّرات خارجية سرعان ما تنعكس في الإقليم، كالمفاعيل المحتملة لتفاقم أزمة الغذاء العالمية على الأوضاع الداخلية في أكثر من دولة في المنطقة، يقتضي السعي إلى بناء منظومة إقليمية للأمن والتعاون توثّق أواصر التعاضد بين دوله، وتنمّي شبكة مصالح مشتركة في ما بينها. لقد تراجعت العقبة الرئيسة التي منعت التعاون بين شعوب المنطقة ودولها، وهي الهيمنة الأميركية على الإقليم، واتّسعت آفاق الممكن أمامها. ومع استعار الصراع بين الولايات المتحدة والعملاقَين الروسي والصيني، وانغماس الأولى المتزايد فيه، تتاح فرص تاريخية لا توجد مبرّرات لعدم التقاطها.