منتصف العام 2011، وصل موفد لزعيم عربي بارز إلى دمشق حاملاً رسالة إلى الرئيس بشار الأسد. كان فحواها يتركز على الوضع الداخلي إثر اندلاع موجة الاحتجاجات وانتقال المعارضين إلى حمل السلاح في وجه الدولة السورية. وطالبت الرسالة الأسد بإحداث تغيير سياسي في الحكم مقابل منع تمدد الموجات الاحتجاجية ووقف الدعم الخارجي لها. قرأ الأسد الرسالة، وأعادها إلى الموفد وقال له: سلم على من أرسلك، ولا جواب!لم يكن الأسد في ذلك الوقت يتوقع أن يكون التآمر على سوريا بهذا الحجم، وعلى مدى ست سنوات، كانت المواجهة قاسية جداً، وجاء الدعم للأسد من حلفائه في لبنان والعراق وإيران، ما منع سقوط الدولة السورية، قبل أن يأتي الدعم الروسي ليفتح الباب أمام استعادة المناطق التي سيطر عليها المسلحون. وخلال تلك الفترة، كانت المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة، عبارة عن مضيعة للوقت، ولم تفد بشيء على الإطلاق، بل ربما كان لها دورها في تسعير الحرب في سوريا. مضت السنوات، وتصرف الجميع على أن مشروع إسقاط الدولة السورية ونظامها هو الذي سقط. والحصار الذي تعزز بعدما توقف إطلاق النار في مناطق واسعة من سوريا، ترافق مع تعزيز الاحتلال الأجنبي المباشر عقب فشل الوكلاء المحليين في إدارة الأمور. وهذا ما جعل الاحتلال الأميركي يثبت قواعد ويعزز واقع المجموعات الكردية الانفصالية، فيما اجتاح الأتراك مناطق الشمال الغربي من سوريا.
خلال السنوات القليلة الماضية، انطلقت موجة من الاتصالات بين عواصم عربية وإقليمية وغربية مع سوريا، مباشرة أو من خلال وسطاء، وتفعلت هذه الاتصالات بعد الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا وتركيا. وهو أمر يؤكده مرجع كبير في دمشق بقوله: «يتواصلون معنا سراً، لكنهم يخافون الغضب الأميركي، نحن لا نحمّل أحداً أكثر مما يحتمل، لكن أحداً لا يمكن أن يفرض علينا شروطاً. ما واجهناه خلال عقد كامل، لا يقدر كل هؤلاء على تحمله، وقد صمدنا، ودورنا العربي نحن من صنعناه».
وسبق للرئيس السوري بشار الأسد أن صارح قادة عرباً وموفدين ووسطاء، في الفترة الأخيرة، بأن «سوريا لا تخوض معركة العودة إلى الجامعة العربية. وسوريا لا ترفض دعوتها إلى أي قمة أو اجتماع عربي، لكنها غير مستعدة لمقايضة هذا الأمر بأي شيء يمس ثوابتها». ونقل عن الرئيس السوري قوله «إن دمشق هي من يملك حق أن يسامح دولاً وجماعات كانت طرفاً كبيراً في الحرب وشريكة في سفك الدماء العربية. وسيكون من الخطأ أن يفكر أحد بأن سوريا مستعدة للحديث مع أي دولة حول وضعها الداخلي، وهي لا تقبل بأي وساطة بينها وبين أي سوري يريد العودة إلى بلده وفق شروطه. لا مجال لأي تفاوض حول المسألة السورية الداخلية».
خلال الشهرين الماضيين، دارت محركات الوسطاء بقوة كبيرة. حاولت دولة الإمارات العربية لعب دور خاص. لكنها كانت محكومة بالسقف الأميركي من جهة والسقف السعودي من جهة أخرى، بينما تولت سلطنة عمان التوسط بين دمشق ودول كبيرة، منها السعودية وحتى الولايات المتحدة. فيما كانت روسيا وإيران تديران وساطة مع تركيا. حتى العواصم العربية الفاعلة تحركت ولو من دون خطوات كبيرة. مثل مصر التي تريد تنسيق خطواتها مع السعودية، أو الجزائر التي لا تملك النفوذ الذي كان لها في وقت سابق.
وكشف مطلعون على جانب من هذه الاتصالات أن مسقط استضافت لقاءات هامة بين مسؤولين من سوريا ومن السعودية ومن الأميركيين أيضاً. وأن الاتصالات السعودية - السورية سرعان ما انتقلت إلى حيز التحاور المباشر الذي تمثل في لقاءات عقدت على مستوى أمني في الرياض، ومهدت لرفع مستوى التواصل إلى الحيز السياسي الذي سيترجم في زيارة وزير الخارجية السورية فيصل المقداد إلى جدة. فيما جرى الحديث عن زيارات أمنية سرية قام بها موفدون من دول خارجية إلى سوريا عبر لبنان، وتناولت المحادثات فيها مسائل كثيرة.
وبحسب المطلعين أنفسهم، فإن هذه الأطراف تعي أن رحلة عزل سوريا انتهت إلى فشل كبير. وبات هؤلاء في موقع من يريد تدفيع سوريا ثمناً لعودة التواصل، وكان هؤلاء يعتقدون بأن سوريا مستعجلة لأمرين: الأول، استئناف العلاقة الرسمية مع تركيا، والثاني عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية. وقد صدم الأتراك بموقف الأسد الذي أبلغه إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأنه لا يمانع الاجتماع مع الرئيس رجب طيب أردوغان، لكن على تركيا القيام بخطوات قبل ذلك، تشمل إعلان جدول زمني لسحب قواتها من سوريا، والمبادرة إلى خطوات على الأرض تعكس هذه الجدية. وهو الأمر الذي لا يزال يؤخر المحادثات المباشرة بين سوريا وتركيا من أو مع مشاركة وسطاء. أما مع العرب، فإن الأسد قال لكل من التقاهم من المسؤولين العرب، بأنه ليس مستعجلاً للعودة إلى الجامعة العربية، وهو أصلاً لا يثق بقدرتها على القيام بشيء. لكنه مستعد لتنظيم العلاقات الثنائية مع الدول العربية من دون أي شرط.
صحيح أن القطريين يطلقون مواقف حادة ضد عودة سوريا. لكن ما لا يقال في العلن، أكده مرجع كبير لـ«الأخبار»، وهو أن القطريين توسطوا لدى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله للبحث في تنظيم العلاقة مع القيادة السورية من جديد. إلا أن الأسد لم يكن متحمساً لهذا الأمر.
توسط القطريون لدى حزب الله لإعادة الاتصال بالأسد وقاد العمانيون اتصالات مع دول عربية وغربية أيضاً


أما السعودية فقد حاولت مقايضة سوريا في ملفات كثيرة تتعلق بالواقع العربي والعلاقات مع دول الإقليم. فبحث السعوديون كما سبق لآخرين أن فعلوا، أن يعرضوا على الأسد التخلي عن تحالفه مع إيران وقوى محور المقاومة مقابل انفتاح سياسي واقتصادي كبير على سوريا، إضافة إلى إثارة عناوين تتعلق بالإصلاحات السياسية الداخلية في سوريا، وصولاً إلى محاولة انتزاع مواقف سورية مطابقة لموقف الجامعة العربية من الحرب القائمة في اليمن، بما في ذلك محاولة إقناع الأسد بطرد السفير اليمني الحالي في دمشق وتسليم السفارة إلى ممثلي حكومة عدن التابعة لتحالف العدوان العربي - الأميركي على اليمن. لكن الأسد رفض هذا الأمر أيضاً. وحتى في ملف فلسطين، فقد راهن البعض على أن موقف الأسد السلبي من حركة الإخوان المسلمين ومن حركة حماس قد يساعدهم على موقف من المقاومة في فلسطين، لكن الأسد الذي لم يكن سهلاً عليه إعادة العلاقة مع حماس، كان قد حسم الأمر من خلال القول بأن موقفه من الحركة أو أي فصيل فلسطيني آخر، يرتبط بموقع هذا الفصيل في محور المقاومة ضد الاحتلال، ولذلك لم يأخذ ملف استئناف العلاقة مع حماس وقتاً طويلاً، بينما بقي موقفه من القضايا الأخرى على حاله.
ما حصل أخيراً، هو أن السعودية التي أدارت استراتيجية جديدة تستهدف «صفر مشاكل»، سارعت إلى عقد اتفاق مع إيران، يتيح لها الإسراع في وقف الحرب على اليمن، ويسهل على الرياض استئناف العلاقات مع سوريا بصورة مباشرة وعلى مستويات عالية، وصولاً إلى التوافق السعودي - المصري على ضرورة عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وهو ما يريد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تحقيقه، بعد أن يحصل على غطاء ولو شكلي من الدول الحليفة له في مجلس التعاون الخليجي، ودول أخرى مثل مصر والأردن والعراق، حيث لا يزال موقف قطر هو الوحيد الرافض بينما يجري الحديث عن تردد كويتي يمكن لبن سلمان معالجته.
غداً، سنسمع الكثير من التحليلات والتقديرات والمقاربات حول أبعاد الخطوة، وستنطلق ماكينة خصوم سوريا في لعبة إعلامية مكررة ومملة تتحدث عن التنازلات والمقايضات، لكن يكفي متابعة الوقائع على الأرض، ومسار الأمور في سوريا ومن حولها، حتى يدرك الجميع، أن ما يجري إنما هو محاولة عربية للعودة إلى سوريا وليس العكس.