قليلة هي القمم العربية التي تتحوّل فيها مشاركة رئيس عربي إلى الحدث الذي يتجاوز في رسائله وأبعاده القمّة ذاتها. لولا مشاركة الرئيس السوري، بشار الأسد، في قمة جدة، لكانت هذه الأخيرة أقلّ من حدث تقليدي، قد لا يلتفت إليه كثيرون في العالم العربي. أمّا من جهة إسرائيل، فينبع الاهتمام بتلك المشاركة من كونها محطّة كاشفة عن تحوّلات عميقة، ومؤشّراً إلى اتّجاهات إقليمية مغايرة في العديد من جوانبها لِما تطمح إليه تل أبيب، ولا تفتأ أجهزة التقدير السياسي والاستخباري الإسرائيلي تستكشف ما تحمله من مخاطر وفرص، خصوصاً أن هذه التحوّلات إنّما تجسّد فشل مخطّط إسقاط سوريا وإخضاعها للهيمنة الأميركية، وانتصارها والمحور الذي تنتمي إليه في نهاية المطاف، وإن كان الصراع سيستمرّ بأدوات وأشكال مختلفة، وانطلاقاً من مقاربات وتقديرات مغايرة إزاء آفاق المستقبل.ولعلّ من أبرز المؤشرات المقلقة بالنسبة إلى الكيان في خضمّ تلك التطوّرات، هو أن هذه الأخيرة تأتي في ظلّ
ونتيجة تراجع النفوذ الأميركي، والذي هو حصيلة عاملَين رئيسيَن: أوّلهما، الخسائر التي تلقّتها الولايات المتحدة في المنطقة منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وفشل العديد من المشاريع الأميركية التي تلته؛ وثانيهما، تبدّل الأولويات الذي فرض على واشنطن توجيه مواردها من أجل مواجهة النفوذَين الصيني والروسي. وإذ لا يبدو أن هذا التحوّل ظرفي، أو أن متغيّرات حادّة ستعيد حرفه في المديَين القريب والمتوسط، فهو يستبطن مخاطر وتحدّيات يُتوقّع أن تتفاقم ما لم تنجح الولايات المتحدة في كبحها، ولا سيما أن «الأصدقاء الموضوعيين» الذين راهنت تل أبيب على إمكانية نسج تحالفات معهم، باتوا مقتنعين بأن الأميركيين ليسوا مستعدّين للتورّط في مواجهة إقليمية مع إيران وحلفائها، وأنه لم يعُد بإمكانهم الاعتماد عليهم من أجل حماية أمنهم القومي، ولذا، اندفعت السعودية والعديد من الدول الأساسية الأخرى في المنطقة إلى تحسين علاقاتها مع محيطها العربي والإسلامي، واعتماد سياسة أكثر عقلانية في إدارة المخاطر.
الأطراف الخليجيون، وعلى رأسهم السعودية، يعتقدون أن إسرائيل أضعف من أن تشكّل عمقاً استراتيجياً


يضاف إلى ما تقدّم، أن أحد أهمّ العوامل المؤسِّسة للتحوّلات الجارية حالياً، إنّما هو تمكّن «محور المقاومة» من حصد مكاسب كبرى وتعزيزها في خلال السنوات الأخيرة، بما لا يستثني اليمن الذي أسهم في إنضاج هذا الفهم السعودي المستجدّ إزاء موازين القوى الإقليمية التي انتهى إليها «الربيع العربي». وإذ يقرأ التقدير الإسرائيلي، في التحوّل السعودي، رغبة في التكيّف مع الواقع الجديد، فإن هذا التكيّف سيترجَم عملياً قبول إيران كدولة عتبة نووية تتموضع على مسافة قرار من التخصيب العسكري، وسوريا بقيادة الأسد، التي تتمسّك بتحالفاتها الاستراتيجية، وعلى رأسها تحالفها مع إيران، والذي جلّت متانته زيارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي،لدمشق. ومن هنا، يخشى الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية «أمان»، اللواء تامير هايمن («معهد أبحاث الأمن القومي» 4/5/2023)، من أن تؤدّي هذه التطوّرات إلى «واقع أمني مستقرّ في المنطقة تحت مظلّة ردع نووي إيراني، والطلب من إسرائيل أن تقبل هذا الواقع الجديد، وألّا تحاول تغييره».
ويحذّر هايمن من أنه «كلّما كان تحسين العلاقات مع إيران قائماً على هذا الأساس... ستتّسع الفجوة بين مواقف إسرائيل ودول الخليج»، وأن «دولاً كثيرة وعلى رأسها السعودية، يمكنها أن تغضّ النظر ما لم تتخطّ إيران العتبة وما لم تمضِ قُدُماً في المسار النووي العسكري ذاته»، وهو ما ينسحب على سوريا بتموضعها الاستراتيجي الحالي أيضاً. والنتيجة المباشرة لهذه التحوّلات، هي تقويض فرضيّة إقامة «ناتو إقليمي» يرتكز على إسرائيل والسعودية، في مواجهة «محور المقاومة» (وهو سقف أعلى من التطبيع الذي له حساباته المختلفة)، وخاصة أن الطرف الرئيس في هذا الحلف أصبح أكثر استعداداً للتعايش القهري مع الترتيبات الجديدة، وتبنّي استراتيجية مغايرة لاحتواء المخاطر الكامنة، عبر الاقتراب السلمي من ساحتَيها الرئيستَين، إيران وسوريا. وفي الحدّ الأدنى، فإن تلك الترتيبات من شأنها تهميش السردية الإسرائيلية التي دأب مسؤولو الكيان على الترويج لها (وسيستمرّون في ذلك)، عن أن اسرائيل حليف موضوعي لـ«المحور العربي» في مواجهة «محور المقاومة»، وأن هذا الحلف ينبغي تطويره والارتقاء به إلى تحالف علني على المستويات كافة.
يبقى أن المؤشّر الأكثر دلالة على المستوى الاستراتيجي، هو أن ما يَجري يدحض «النظرية» القائلة بأن إسرائيل يمكن أن تشكّل بديلاً من المظلّة الأميركية، ويكشف أن الأطراف الخليجيين، وعلى رأسهم السعودية، يعتقدون أن إسرائيل أضعف من أن تشكّل عمقاً استراتيجياً قادراً على توفير ما يطمحون إلى تحقيقه في مواجهة محور المقاومة، فضلاً عن أنها ليست على استعداد أصلاً لتقديم أيّ «تنازلات» في الساحة الفلسطينية يمكن أن تُمهّد لتحالف مفترض. مع ذلك، ينبغي أن لا يتبادر إلى الأذهان أن المحور الإقليمي المضادّ لمحور المقاومة سيتحوّل إلى قوّة معادية لإسرائيل أو أنه سيقطع علاقاته العلنية والسرّية معها، بل إن استمرار هذه العلاقات يُعدّ من المسلّمات في الكيان. أمّا بخصوص الرهان على إمكانية نجاح الطرف السعودي في إحداث تحوّلات في توجّهات سوريا الاستراتيجية، فقد رأى تقدير لـ«معهد أبحاث الأمن القومي» (الدكتورة كرميت فالنسي، رئيسة الجبهة الشمالية في المعهد (4/5/2023)) أن «الأسد لا يتغيّر، وهو ليس مستعدّاً لتقديم تنازلات... هو يريد الاستفادة من حصوله على الشرعية من دون أيّ ثمن لذلك، ولا ينوي التخلّي عن الحلف الاستراتيجي القوي القائم بينه وبين إيران».