الحسكة | لا يبدو المشهد في مدينة تل تمر في ريف محافظة الحسكة الغربي معتاداً. المدينة لم تعد تعج بسكانها، الذين غالباً ما كانوا يملأون شوارعها بالحياة لكونهم أبناء بلدة عرفت بأنها عاصمة السياحة الحسكيَّة وموطن الآشوريين السوريين وحاضرتهم. فالكثير من أهل المحافظة كانوا يقطعون عشرات الكيلومترات «لأكل البرغل البلدي عند أم هاني في قرية تل نصري، أو السمك المشوي في تل جمعة او تل جزيرة».
والسيارات كانت تأتي من المالكية، من مسافة تزيد على مئتي كيلو متر، لهذه الغاية ولقضاء أيام العطلة على ضفاف نهر الخابور. لم يعد ذلك ممكناً اليوم، فأكثر من خمسمئة عائلة آشورية هاجرت، ومعها عشرات العوائل العراقية الآشورية، التي سبق أن قصدت تل تمر بعد حرب العراق عام 2003 متوجهة إلى لبنان والسويد وأميركا ودول أوروبية، فيما اختار قلة منهم المناطق الساحلية السورية مستقراً على أمل العودة إلى بلدتهم.
صباح كل يوم أحد تقام الصلاة في كنيسة السيدة العذراء في البلدة، عاصمة الآشوريين السوريين، لكن لا يمضي شهر إلا يتناقص فيه عدد المصلين لأنهم قصدوا دروب الهجرة.
أكثر من مئة شاب التحقوا بـ«اللجان الشعبية»

عامان تقريباً مضيا منذ بدأ أهالي البلدة البالغ عددهم حوالى 30 ألف نسمة (أكثر من ثلثيهم من الآشوريين)، بهجرتها تباعاً. فمع دخول مسلحي «الجيش الحر» في 8 تشرين الثاني 2012 مدينة رأس العين، التي تبعد عن تل تمر حوالى 40 كم، وتهديدهم البلدة، بدا سكان البلدة بالهجرة، واستمر ذلك حتى مع سيطرة «وحدات حماية الشعب» الكردية على البلدة. ثمّ ازدادت وتيرة الهجرة مع سيطرة «جبهة النصرة» و«الدولة الإسلامية» على مناطق في ريف المحافظة، سيما الطريق الجنوبي للبلدة الواقع تحت سيطرة «داعش»، الذي غالباً ما يشهد اشتباكات بين «وحدات الحماية» والتنظيم المتطرف.
في عيد الأضحى الماضي، اختطف أربعة آشوريين على الطريق الجنوبي للبلدة، والمرتبط بقرى جبل عبد العزيز التي يسيطر عليها «داعش»، بعدما أوقف حاجز طيار سيارة كانت تقلهم. لا أحد يعرف عنهم شيئا حتى الآن.
يروي الأستاذ الجامعي، الياس، أنّ «الوضع في تل تمر قلق. فمن الصعب أن تعيش بجوار طرقات تطل على تنظيم يكفّرك ويريد قتلك. مع ذلك بقينا لأننا نؤمن أن هذه الأرض أرضنا». ويضيف: «هاجر آشوريو تل تمر خشية الاختطاف والابتزاز، فهم لا يعرفون إلا السلام. الحرب وتبعاتها أقوى منهم بكثير، لذلك رأوا أنّ الهجرة هي الحل».
في الطريق نحو البلدة حواجز لـ«وحدات حماية الشعب» التي تسيطر على المدينة منذ أكثر من عام ونصف عام، وعلى مدخلها وداخلها نقاط لـ«لجان شعبية» من الآشوريين تعمل بالتنسيق مع «الوحدات».
أكثر من مئة شاب التحقوا بهذه «اللجان» والبعض منهم اجتاز الخمسين. يقول شربل موسى، أحد عناصر «اللجان»، إنّ «الحرب علمتنا أن السلاح وحده من يحمينا، ونحن نحمله اليوم لنرد الأذى عن أهلنا وأطفالنا ولنحمي أرضنا وممتلكاتنا من خطر التكفير». ويتابع: «ما زلنا نعيش طقوسنا المعتادة برغم غصة الألم على ما يجري». طقوس تعني الكثير، لأم أوديشو، باتت تغيب اليوم بمعظمها، «فموسم السليقة (طبخ البرغل على الخشب في أول الخريف) هو من مسلمات حياة الآشوريين في تل تمر، وموسم العنب البلدي لن يعود كما كان إن لم يعد الأمن والأمان لسوريا» كما ترى أم اوديشو، التي لخصت حلمها «بانتصار الجيش السوري الذي يحمي أرضها التي تحب».
المرأة السبعينية لم يبق لها سوى تردّدها اليومي على كنيسة البلدة. تصلي لسوريا ولعودة أهل البلدة، فهي (تل تمر) «حاضرة الآشوريين وعشقي الأبدي، لا يمكن أن أعيش دون أن أتنشق هواءها، فهي الحياة بالنسبة إلي».
التجوال في شوارع البلدة يشير إلى حياة شبه طبيعية. الوافدون من الرقة والطبقة بعثوا شيئاً من الحياة في البلدة من جديد. ويبدو أنّ الأهالي اعتادوا الوافدين الذين تأقلموا بدورهم مع واقعهم الجديد.
هذه الأرض باتت مغترباً بعدما هجرها رفاق طفولة بابل سركيس، الطالبة في كلية الاداب.
تتواصل معهم عبر الانترنت، رافضة المغادرة لأنها «فطرت على المعيشة البسيطة التي أراها أجمل من اي مكان آخر خارج سوريا. لا أفتقد سوى الأصدقاء... كل يوم أتواصل معهم. لا أحد منهم مرتاح خارج سوريا، أغلبهم يريد العودة برغم نعيم الغرب ومغرياته، ودائماً ما يقولون لي ذبحتنا الغربة وكوخ في تل تمر أفضل من قصور الغرب». حال تل تمر يشبه حال أهلها في القرى المحيطة، تل الرمان وتل ورديات، التي لا يزال ديرها، ذو القيمة الدينية المرتفعة في وجدان أهالي المنطقة، حاضراً لكن قلة تتردد عليه، فيما مرّ عيد السيدة العذراء في منتصف شهر آب الماضي بطقس اقتصر على قداس غابت عنه طقوس الدير المعتادة من سهرات حتى الصباح.