دمشق | بين أمّ تونسية اقتلع الفكر التكفيري «كبدها» للقتال في سوريا، وأمّ سورية ثكلى بابنها الشهيد الذي راح ضحية الإرهاب، يبدو مشهد تسوية أوضاع المسلحين التونسيين أشبه بمشهد درامي. مشهد فيه الكثير من العناصر والكلام عن جهود حثيثة يقوم بها المجتمع المدني في البلدين لمعالجة هذا الوضع، ضمن مبادرة تسعى إلى الحد من ظاهرة الإرهاب وحقن الدماء ونبذ الكراهية والعنف، الذي سببه انخراط فئة من الشباب التونسي بالأحداث الجارية في سوريا، وذلك وفق آلية وشروط معينة تحفظ بالحد الأدنى حقوق جميع الأطراف وترفض «جهاد الإخوة» ضد بعضهم البعض. المشهد بدأ منذ قدوم وفد من المجتمع المدني التونسي إلى دمشق، قبل أيام برفقة أمهات عدد من المسلحين التونسيين، الذين يوجد بعضهم في السجون السورية ممن قبض عليهم قبل أن «يتورطوا». الأمهات التونسيات عانقن أمهات الشهداء في سوريا في لحظة أوحت بـ«المصالحة الرمزية»، قبل أن يتوجهن بالاعتذار من كل أم سورية، ليكون المشهد التالي السماح للأمهات التونسيات بلقاء أبنائهن في أحد الفروع الأمنية، في لحظات يصفها رئيس وفد المجتمع المدني التونسي، زهير لطيف، في تصريحات لـ«الأخبار» بأنّها لحظات إنسانية اتسمت بالكثير من الأسى واعتذار الأبناء من أمهاتهم والندم والاعتراف بالخطأ، بأنهم تعرضوا «للتغرير» من وسائل الإعلام ومن بعض الشيوخ الذين شجعوهم على «الجهاد» في سوريا.
وبحسب لطيف، فقد تلقى الوفد العديد من الاتصالات من مقاتلين تونسيين وليبيين استمعوا إلى مبادرة تسوية الأوضاع، وأرادوا أن يلقوا أسلحتهم والعودة إلى أوطانهم، مشيراً إلى أنّ الوفد التونسي، بالتعاون مع الصليب الأحمر الدولي وجهات مختلفة من المجتمع المدني السوري المختص، بصدد محاولة إيجاد مخرج آمن لهؤلاء، على أن يحاكموا محاكمة عادلة كما تنص عليه المبادرة.
ولا يخفى على أحد صعوبة انسحاب المقاتلين التونسيين الذين عرفوا بالمبادرة من تلقاء أنفسهم، لأنهم بحسب رئيس الوفد «مهددون بالقتل، وليس من البساطة أن تلقي سلاحك وتخرج من جبهة النصرة وتعود إلى حيثما تريد». لكن ذلك لم يمنع، أيضاً، عودة عدد قليل سراً إلى تونس، جرى اللقاء بهم قبل عشرة أيام من قدوم الوفد إلى سوريا، وفق لطيف.
المبادرة التي يرفض لطيف أن تستغل وتوظف إعلامياً أو سياسياً وأن تحافظ على شكلها الإنساني، هي أول مبادرة، المجتمع المدني هو الطرف الأول والأساس فيها. وعلى ذلك، لم ولن يحصل لقاء أي مسؤول سوري حكومي أو الاتصال معه مباشرة، مبيناً أن الوفد التونسي أعلم الحكومتين السورية والتونسية بمبادرته، وأن جميع جهود الوساطة تجرى مع منظمات المجتمع المدني السوري، تمهيداً لمرحلة التنفيذ التي بدأت بالفعل من خلال قبول الحكومة التونسية أن يكون لطيف مفاوضاً لدى الصليب الأحمر، وإعلان الحكومة السورية موافقتها المبدئية على تسليم مجموعة أولى تضم 43 معتقلاً تونسياً اختارتهم بنفسها. وذلك شرط أن يعتذروا من الشعب السوري وينبذوا الكراهية والعنف ويرفعوا قضايا ضد من موّلهم وحرّضهم، وأن يُحاكموا في تونس.
وينفي لطيف ما جرى تناقله عن اتهامه الحكومة التونسية بالتواطؤ والتساهل في تسيير الشباب التونسي إلى سوريا، فهو يشير بوضوح منذ بداية الأزمة إلى بعض التيارات السياسية ضمن الترويكا الحكومية في بلاده التي تنادي على العلن وتشجع الشباب التونسي على «نصرة» سوريا، «وهذا ما يرفضه العديد من أعضاء الحكومة التونسية رفضاً كلياً»، مبيناً أنّ الحكومة التونسية كانت ضده في بداية هذه المبادرة، لكن أحد الوزراء في حركة النهضة صرح أخيراً بأنه «يثق بي وبهذه المبادرة».
ويبدّد رئيس وفد المجتمع المدني التونسي المخاوف التي يطرحها العديد من السوريين من إمكانية التساهل مع المعتقلين التونسيين، رغم أن حزب النهضة الإسلامي، ضمن الترويكا الحكومية؛ لأنّ «هناك التزاماً كتابياً مع منظمات المجتمع المدني السوري بمتابعة هؤلاء وملاحقة كل من له علاقة بالعملية الإرهابية من تمويل وتحريض»، معتبراً أنّ الرهان هو على «استقلالية القضاء التونسي»، الذي لا بدّ من أن يكون له دوره الفعال ليحدّد من لم تتلطخ يداه بالدماء السورية.
وهي مسألة «محسومة»، فالمقاتلون متابعون منذ خروجهم من تونس ودخولهم إلى تركيا، وقبض عليهم قبل مضيّ 24 ساعة في طريقهم إلى المناطق السورية، حتى إنهم لم يروا الأسلحة.
تأثير المبادرة التي انتشرت في العديد من وسائل الإعلام العالمية أدّى إلى انخفاض معدل تدفق المسلحين التونسيين الشهري إلى سوريا بنسبة 80 بالمئة، وفق لطيف. وقد دفعت، كما يقول، إلى اتصال العديد من المنظمات في الاتحاد الأوروبي وبلدان المغرب العربي للتنسيق مع الوفد التونسي، استعداداً لإطلاق مبادرة دولية مدنية في الشأن ذاته.
ولا يملك لطيف إحصائية محدّدة للتونسيين الموجودين للقتال في سوريا، والذين يتبعون غالبيتهم التيار السلفي ليحوّل الإجابة عن هذا السؤال إلى الحكومة التركية وإدارة الهجرة فيها، فهي أكثر من يمكن أن يعرف بالضبط عدد هؤلاء الذين دخلوا إلى تركيا ولم يخرجوا منها، في إشارة إلى تورط الحكومة التركية في تسهيل مرور المسلحين عبر أراضيها.
ويرد لطيف، المعارض السابق لحكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، على اتهامات طاولته حول عمله للمتاجرة بمعاناة التونسيين، بالتأكيد أن وجوده في سوريا ليس هدفه أو من ضمن أولوياته «تلميع صورة» الحكومة السورية، التي لا يزال ينتقدها بحسب قوله في العديد من الأمور «وبالأخص في ما يتعلق بالإعلام والحريات». ولفت، في الوقت ذاته، إلى أنّ هناك من «لا يريدون نجاح هذه المبادرة ويريدون استمرار سيناريو القتل والكراهية بين الشعوب، وهؤلاء يرون أن عودة التونسيين وندمهم بعد إلقاء السلاح أمر سيؤثر على استراتيجيتهم».
وفي ما يتعلق بالجالية التونسية الكبيرة في سوريا، يصف لطيف أوضاعها بالمتردية جداً مادياً ومعنوياً، لكنه سرعان ما يؤكد أنها لا تريد مغادرة سوريا؛ لأن لديها انتماءً إلى هذا البلد، مشيراً إلى أنّ «أكبر غلطة ارتكبتها الحكومة التونسية هي الإسراع في إغلاق السفارة من دون أن تترك تمثيلاً قنصلياً».
وفي خضم التصريحات، يقف رئيس الوفد التونسي لبرهة وهو يعيد كلمات سؤال طرحه عليه معظم من التقاهم من السوريين: لماذا تأتون لتقتلوا أولادنا؟ ليؤكد أن ما يهم من هذه المبادرة هو كيفية تغيير الصورة القائمة للتونسيين، وعدم تدفق المزيد منهم إلى سوريا والوقوف في وجه الإرهاب والتوعية تجاهه في خطوة استباقية تتخذ من مبدأ أن الهجوم على الإرهاب خير وسيلة للتصدي له والدفاع عن سلامة المجتمعات وأمنها.