دمشق | في خضمّ أخبار الحرب الدائرة في سوريا، وأثناء الانشغال بالأوضاع الاقتصادية والأمنية المتدهورة والمشتعلة في أرجائها، يمرّ نبأ مغادرة طبيب هنا ومهندس هناك للبلاد دون ضجيج، في فصل من فصول النزف السوري المستمر منذ ما يقارب عامين ونصف عام. نزف لا تقل خطورته عن تدمير المدارس والمستشفيات والمؤسسات العامة والخاصة، والاستهداف الإعلامي والاقتصادي والسياسي الذي يحاصر البلاد.ولا تختلف كثيراً أسباب وظروف من يغادر سوريا ومبرراته، من حيث انعدام الأمن والخوف من المستقبل المجهول، وتراجع سوق العمل، وتواصل الأزمة، واستمرار عمليات الاغتيال والاستهداف، لدى غالبية الكفاءات المهاجرة، إلى خارج حدود الحرب والحصار، ليكون الخيار السياسي المخالف، والاصطفاف مع الجهة المعارضة للدولة السورية، الوجه الآخر، لأسباب البعض للمغادرة.
ووفق أحد المراقبين للأوضاع العامة في سوريا، في حديثه مع «الأخبار»، فإنّ تعرّض الكوادر العلمية والطبية، منذ بداية الأزمة، لعمليات «تصفية ممنهجة» من قبل المجموعات المسلحة، التي راح ضحيتها خيرة الأطباء والعلماء، إضافة إلى تعرضهم هم و/ أو أحد أبنائهم للخطف بغية الابتزاز المادي، دفع غالبيتهم إلى المغادرة خوفاً على الحياة، واستجابة للمغريات الجاذبة التي حرص «معسكر أعداء سوريا» على تقديمها، ولا سيّما في دول الخليج.
إلا أنّ المغريات التي قدّمتها دول الخليج لم تكن بهدف المساعدة بقدر ما كانت لأهداف سياسية، و«انتقامية» من السوريين الذين وقفوا مع دولتهم، وبالأخص الفئة المتعلمة التي رفضت، في غالبيتها العظمى، الانخراط في الأحداث، بحسب ما يؤكده الطبيب رامز الفاروق (اسم مستعار)، الموجود في السعودية منذ عام ونصف عام، في حديثه مع «الأخبار»، حيث إن السلطات السعودية «أجبرته على كتابة تعهد بأنه ضد النظام السوري حتى تجدّد له الإقامة».
الشيء ذاته يوضحه فراس، المتخرج من كلية الهندسة، من خلال شرح تجربة صديقه الطبيب، الذي دُمِّرت عيادته نتيجة الأحداث، وغادر بعدها مع زوجته وأطفاله إلى قطر للعمل هناك، لتوفير حاجاته وخوفاً من المستقبل المظلم المجهول، مبيناً أن آراء صديقه بدأت تتغير، من التأييد المطلق للدولة إلى المعارضة، مع كل شهر يمضيه في الدولة الخليجية. فيما يرى أحد الأطباء الموجودين في دولة أوروبية، أنّ وجود أيّ طبيب في سوريا اليوم هو عرضة للاستهداف من الجميع، «فأنت كطبيب تعالج المواطنين إما شبيح أو مندس»، وفق المنظومة الجديدة لتصنيف المواطنين في البلاد، داعياً إلى إبعاد مهنة الإنسانية والأخلاق، عن تداعيات الصراع السياسي.
ويروي الطبيب عماد، لـ«الأخبار»، بعد أن يعدّ أسماء أصدقائه المخطوفين والمعتقلين، ومن يعرفهم ممن قتل على أيدي «المسلحين المتطرفين»، تجربته الخاصة في بداية الأحداث، بعد أن عالج جراح بعض «المعارضين»، الذين سقطوا في منطقة سكنه، إثر اشتباكهم مع قوات الأمن، ليكون هذا الأمر سبباً لاعتقاله بعدها، والتحقيق معه لمدة أسبوع، غادر بعدها البلاد، تحت ضغط أبنائه وزوجته.
ولا يرى عماد، الذي يعلن أن موقفه الثابت والوطني هو دعم الجيش العربي السوري في حربه على الإرهاب بكل أنواعه، أي إمكانية لعودته إلى سوريا الآن، في ظل استمرار الأزمة الحالية، وتسلط الأجهزة الأمنية في البلاد، المصنفة من البلدان الأولى الطاردة للكفاءات، وفق تقرير المعرفة العربي لعام 2009، على مستوى الدول العربية، وذلك بحسب مؤشر هجرة الأدمغة المعتمد ضمن منهجية قياس المعرفة للبنك الدولي.
وحسب مصدر طبي في مستشفى المواساة الحكومي، فإنّ عدداً من أبرز الأطباء ورؤساء الأقسام، بعضهم من مدرسي جامعة دمشق، غادروا الوطن، الأمر الذي سبّب ضغطاً كبيراً، دفع المستشفى إلى زيادة الاعتماد على طلّاب الدراسات العليا، ولا سيما في أوقات التفجيرات الانتحارية، لما توقعه من ضحايا وإصابات، غالباً ما تكون بحاجة إلى رعاية طبية خاصة ومستمرة.
ولا يخفي المصدر المختص في الجراحة القلبية، الذي رفض الكشف عن اسمه، في تصريح لـ«الأخبار»، استهجانه لمغادرة هؤلاء الأطباء الذين بنوا سمعتهم وثرواتهم من خيرات هذا الوطن وعملهم في المستشفى وجامعة دمشق، ليعتبر أنه كان من المفروض على المغادرين التزام العمل والواجب الوطني، وأن أيّ أسباب يقدمونها غير مبررة، وخصوصاً في هذه الظروف الحرجة التي يحتاجهم فيها الوطن.
لكنْ لنقيب أطباء دمشق يوسف أسعد، رأي آخر في هذا الموضوع، حيث يشير إلى أن لا شيء اسمه «هجرة أطباء» وأن من غادر هم قلة ونسبتهم ليست بالكبيرة، نافياً وجود أي نسبة محددة لهم، بخلاف ما ورد، على لسان، رئيس مجلس الوزراء وائل الحلقي، قبل مدة، من أنّ «أكثر من 25 بالمئة من الأطباء هم خارج الوطن»، خلال حضوره المؤتمر السنوي لفرع نقابة أطباء دمشق.
ويشير نقيب الأطباء في تصريح لـ«الأخبار»، إلى أنّ قسماً كبيراً من الأطباء الذين غادروا، في بداية الأزمة، نتيجة خوفهم من الأحداث وعدم اعتيادهم انعدام الأمن، عادوا إلى أرض الوطن، وأن قسماً كبيراً عاد أيضاً بعد اكتشافه «العقود الوهمية» التي أغرته للذهاب إلى قطر والسعودية، حيث أعربوا، كما يقول النقيب، «عن ندمهم واعترافهم بأن كل ما وعدوا به كان كذباً».
ويؤكد نقيب الأطباء، بعد أن يتهم المسلحين وداعميهم بأنهم يقتلون الإنسان ويدمرون المستشفيات والمستوصفات والأجهزة الطبية، على نحو ممنهج مدروس، أنّ النقابة على تواصل دائم مع غالبية الأطباء خارج البلاد ويقوم العديد منهم ضمن مبادرة «سوريا الأم» بتقديم المعونات وإرسال الشحنات الدوائية إلى سوريا. وهنا تقترح شهد، الناشطة الإعلامية، إنشاء منظمة تطوعية تضمّ أطباء سوريا في الخارج، لتقديم كل ما يمكن تقديمه، متسائلة عن الدور الوطني والمهني «الغائب» لأطباء الخارج في معالجة الجرحى والمصابين من أبناء بلدهم منذ بداية الأحداث.
هذه الأحداث التي ينتظر نهايتها كل السوريين، لعودة أطبائهم، الذين علقوا على أبواب عيادتهم مواعيد لإجازة لا تنتهي، في محاولة للاستمرار في الإمساك بولاء مرضاهم، كما تبيّن، الناشطة الإعلامية، لافتةً إلى أن العديد من العيادات الطبية للأطباء المشهورين المغادرين، استمرت بالعمل ولكن من خلال تسليمها لأطباء متمرنين ــ «يتدربون بالمواطنين» ــ تحت الوعود المتكررة، بأن الطبيب المغادر في طور العودة إلى الوطن.
وللمهندسين حصتهم من التغرّب
الجانب المادي الذي دفع الأطباء المشهورين، المعتادين مستوى استقرار معين، لا يرضون ما دونه، إلى السفر، هو ذاته ما دفع العديد من المهندسين السوريين إلى مغادرة البلاد، وإنما للبحث عن لقمة العيش وتأمين المستقبل، بعد أن توقفت أغلب المشاريع الخاصة، في مختلف المجالات، مع اشتداد الأزمة في عامها الثاني، بحسب المهندس فواز الذي غادر إثر تلقيه عقدَ عمل «مغرياً» من دولة خليجية، لا يستطيع أي عاقل أن يرفضه.
ويتشارك العديد من المهندسين مع رؤية أنّ رفض الخروج من سوريا لدى تلقي أي فرصة، يبدو نوعاً من الجنون والغباء، كما يرى المهندس عمار الخالد (اسم مستعار)، في حديثه مع «الأخبار». «فكيف يمكنك البقاء في بلد لا مستقبل لأطفالك فيه، مع استمرار الأزمة وعدم ظهور أي بوادر للحل»، يضيف. وعن دور الكفاءات في بناء الوطن، يرى أنّه «حين يتوقف الدمار ستجدنا عائدون للإعمار».
مرحلة إعادة الإعمار التي تستعد لها نقابة المهندسين، عبر إعداد دليل إرشاد للكشف على المنشآت المتضررة ليكون مرجعاً في تلك المرحلة، رغم النزف المستمر في عدد منتسبيها، وفق مصدر إعلامي مطلع في النقابة، قد تواجه خطر غياب الكفاءات المتميزة، التي توقع العقود وترتبط بإنجاز التعهدات في دول الخارج، حيث لن يكون من السهل استرداد خيرة المهندسين بعد أن يؤسسوا أعمالهم في الخارج.
وحسب المصدر الذي يكشف وجود ملف داخل النقابة للمنقطعين عن تسديد رسوم اشتراكهم فيها، إنّ أسباب سفر المهندسين ازدادت خلال السنة الماضية بنسبة كبيرة، بالتزامن مع ارتفاع ثمن مواد البناء وتوقف غالبية المشاريع، وصعوبة نقل الآليات واستهدافها المستمر من خلال عمليات السرقة والتخريب التي تطاولها. ورأى أنّ أيّ مشروع في البلاد لا يمكن البدء به دون انتهاء الأزمة والعودة إلى مستوى معين من الاستقرار.