دمشق | تبدو الأسواق السورية محافظة على تقدم أسعارها بين حين وآخر، بينما قفز الدولار الأميركي إلى 250 ليرة سورية. تهديد حرب ثالثة من هنا، وسفر بعض العائلات خارج دمشق من هناك. كل ذلك لم يمنع أبناء دمشق من الاستعداد لاستقبال العام الدراسي والتحضير لمستلزماته، بينما منشار الغلاء يأكل أموالهم وأعصابهم بلا رحمة. أبرز المناطق التي تناسب أثمان بضائعها مع مقدرات الناس المالية تقع على أطراف العاصمة من مناطق سكن عشوائي كسوق نهر عيشة، وأخرى لأصحاب الدخل المحدود كأسواق الثياب المستعملة في البرامكة، إضافة إلى بعض الفعاليات الشعبية التي ترعاها المؤسسات الأهلية الخاصة أو العامة لتغطية احتياجات المهجّرين من لوازم مدرسية وسواها، بينما تتربع منطقة الحلبوني خلف المتحف الوطني وسط دمشق على قائمة أسواق المواسم هذه الأيام، حيث تضم عشرات المكتبات والمحال التجارية المتخصصة ببيع القرطاسيات والكتب والدفاتر المدرسية، وهي أحد مصادر التوزيع لباقي مكتبات العاصمة. لا يسأل هنا عن المواد الأولية التي تصنع تلك الحاجيات، بل يشير البعض إلى غلاء وصولها إلى يد المستهلك. «تذكّر كبار التجار والمستوردين من خارج القطر أن موعد المدارس في منتصف أيلول الجاري، فضاعفوا أسعار الأقلام والدفاتر إلى 200%، ترى كيف نقنع الناس بذلك؟»، يروي صاحب إحدى المكتبات، فرزات خيري، لـ«الأخبار» عن الصعوبات التي يواجهها في الحصول على بضاعته. بينما نجد المستهلك يذهب عادةً نحو «بسطات» الطرق لشراء الدفاتر والأقلام بحثاً عن أسعار مناسبة، لكن المسألة سيّان، إذ تعاني أم وائل (ربة منزل) من مشكلة فوران أسعار أينما ذهبت: «اشتريت لأولادي الثلاثة، وهم اثنان في المرحلة الإعدادية والثالث في الابتدائية، بعض الدفاتر والأقلام، وقصدت بسطات الشارع كي أجد أسعاراً مناسبة، ولكن لا فائدة، فدفتر السلك 150 صفحة من القطع المتوسط سعره 350 ليرة، على هذه الحال يجب أن أدفع حوالى 7000 ليرة من أجل الدفاتر فقط، بينما قبل الأزمة كانت تكلفني 1000 ليرة أو أكثر بقليل». وتضيف أم وائل في حديثها مع «الأخبار»، بسخرية من مسألة اللباس المدرسي الملزم، في وقت «فقد فيه معظم الناس بيوتهم وثيابهم وأمانهم، تجد وزارة التربية تطالبنا بشراء الثياب الرسمية».
القرطاسيات المدرسية تقفز الآن إلى واجهة الشراء والاستهلاك في الأسواق السورية، فيما تناوب الثياب الرسمية الزرقاء للمرحلة الإعدادية والرمادية للمرحلة الثانوية، في مخازن التجار بكميات كبيرة منذ العام الماضي، وهي خطوة «تذاكي» على المواطن الذي يقطر جيبه حروباً وتشرداً! في العام الماضي، أصدرت وزاة التربية تعليمات «بعدم التدقيق على اللباس الرسمي»، لا ندري هذا العام إن كان باستطاعة التجار إمرار بضاعتهم قبل إعلان قرار كهذا. «اشتريت لأولادي الأربعة ثياباً مدرسية رسمية بحدود 16 ألف ليرة، يعني فوق راتبي بألف ليرة، لذلك دفعت جزءاً من المبلغ، والبقية لأول الشهر المقبل. العام الماضي لم أستطع شراء تلك الثياب بسبب نزوحنا»، يروي مازن اللحام (موظف) يعيش في أطراف حيّ الزهرة (جنوب دمشق). ويؤكد أن موعد «افتتاح المدارس غير آمن في منطقة الميدان» قرب بيته، ولكن الحقيقة أن مدارس الميدان ليست وحدها، هنالك عشرات المناطق قرب الأرياف لم تعد مؤهلة، وكذلك مدارسها.
الدمشقيون يسيرون خلف سجية الاستعداد للمدارس دون الاكتراث بالقذائف العشوائية أو الأسعار النارية. تجدهم صامدين أمام أنياب التجار، فيما رقابة الأسعار يمكن تكميم أفواهها بثمن ما: «أكثر من شكوى ولجنة تدخل إلى محالنا، لكن الحق معنا أحياناً، كيف لا نرفع الأسعار ونحن نستورد بالغالي جداً، الدولة لا تقدم لنا تسهيلات الاستيراد لنكون بدورنا منصفين للمواطن»، يقول مأمون أبو مصطفى (اسم مستعار)، وهو من تجار القرطاسيات والثياب المدرسية والملابس عموماً. ويشير الرجل إلى أنّ تعطيل أهم معامل حلب التي كانت «أكبر مصدّر للثياب المدرسية والدفاتر، عقّد إمكانية إيجاد بديل ورفع كلفته المالية في ظل الاحتكار والظروف الصعبة».
لم تصل ثقافة الحرب بعد إلى مراحل النضج لدى الناس هنا، فالتقنين وتفهم الغلاء والفلتان الاقتصادي ومحاسبة المتلاعبين بالأسعار هي أشياء لا تخطر لهم عادةً، ولا يزالون يعتقدون بأنّ الألف ليرة سورية تصنع المعجزات! الجميع لا يزالون يظنون بأن الغلاء لعبة تجّار فقط، وأن المواطن هو الضحية و«المعتّر»، ورغم ذلك، تجد الأطفال يختارون حقائبهم الملونة ولا يسألون عن أصوات القصف القريب حولهم وغصة الأهل الأكبر لأنهم لا يستطيعون اقتناء تلك الحقائب. «أفكر جديّاً بعدم إرسال أولادي إلى المدرسة هذا العام، ليس لديّ مال يكفيني لأشتري لهم حاجيات مدارسهم، لولا ذلّ المخيمات على الحدود، لكنت أول من غادر إلى هناك»، بشيء من الأسى يروي فاضل الزين (عامل) عن مشكلة آلاف الأسر السورية في المدن الآمنة وغير الآمنة، ويبحث عن جواب لسؤاله: «إذا كانت الظروف المعيشية تعيسة ومرعبة، فما نفع العلم؟ أفضل لأولادي الأميّة على الموت».
لا يضمن الصراع الدائر في البلاد حق العلم، فالأطفال المراهقون باتوا يهتمون اليوم بكلام الرئيس الأميركي باراك أوباما حول أخبار الضربة العسكرية لسوريا. ها هم يستقبلون العام الدراسي الجديد بأهازيج السخرية والحرب المنتظرة، فيما الخوف والدمار يتصاعدان يوماً بعد آخر، مع تحول مدارس العلم ومؤسساته إلى ملاجئ أو إلى خطوط تماس عسكرية.