لم يكن أحد من سكان يبرود التي اكتشف فيها هيكل عظمي يعود إلى العصر الحجري يتوقع أن يأتي يوم تحاول فيه مجموعات غريبة فرض نمط حياة عليهم يعيدهم إلى ما يشبه ذلك العصر. في المدينة التي تبعد 80 كلم عن العاصمة دمشق و14 كلم عن الأوتوستراد الدولي، هناك من يحاول إبعادها سنوات ضوئية عن المدنية والحضارة. هنا، الضرب هو عقوبة الاستماع إلى فيروز التي يعشقها السوريون، والحقن بالمازوت أو الرمي بالرصاص سيكون بالمرصاد لمن يجرؤ على إنشاء صفحة شخصية على «الفايسبوك».
تبعد يبرود عن صدد (الواقعة في ريف حمص) نحو 50 كلم، وتفصل بينهما مدينة النبك ودير عطية الواقعتان على الأوتوستراد الدولي، على مسافة عشرة كلم من المدينة، اللتان تنتشر فيهما وحدات للجيش السوري. ومع اندلاع المعارك أخيراً في صدد، ارتسمت في المنطقة خطوط تماس تصل إلى جبل مهين الواقع جنوب صدد وشرق النبك.
وتُعَدّ يبرود «خزان» المسلحين في منطقة القلمون. ويقول مصدر محلي لـ«الأخبار» إن البلدة تضم مجموعات مسلحة من أبنائها (كتائب «الأمن الداخلي» و«الفاروق» و«أسود السنّة» وغيرها)، وأخرى من جنسيات مختلفة (أجانب وعرب وخصوصاً سعوديين، إضافة إلى سوريين قاتلوا في حمص)، تحت راية «جبهة النصرة» و«جيش الإسلام» («لواء الإسلام» سابقاً). كذلك ينتشر عناصر من تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في منطقة ريما الواقعة على أطراف يبرود.
قرب البلدة جغرافياً من الحدود اللبنانية، جعل بلدة عرسال منفذاً رئيسياً لها، بعدما بات الوصول إلى هذه البلدة أسهل من الوصول إلى أي بلدة أو مدينة سورية. الطريق بين البلدتين التي كانت مخصصة للتهريب أصبحت اليوم معبّدة وسالكة بسهولة، وتشهد أحياناً ازدحاماً في حركة السيارات والعابرين بين المنطقتين، وأصبح هناك خط «يبرود ــــ عرسال» لسيارات الأجرة! وفي محيط يبرود، أيضاً، تقع قرية فليطا التي تعد مركزاً أساسياً لمهربي المخدرات، وأبرزهم «أبو العباس» الشهير بـ«تخصصه» في تصدير المخدرات إلى السعودية. وبسبب تداخلها المباشر عبر الجبال مع منطقة عرسال، تشكل فليطا أحد المعابر الأساسية لتهريب السلاح بين الضفتين اللبنانية والسورية.
ويقول المصدر إن الوضع المعيشي والاجتماعي في يبرود يزداد صعوبة مع اقتراب موعد فصل الشتاء. ويشير إلى أن طبيعة المعارك بين وحدات الجيش السوري والمجموعات المسلحة تتطلب أن يفرض الجيش حصاراً على المسلحين، ما يعني، بالتالي، حصاراً على القرى التي ينتشر فيها هؤلاء. ويلفت إلى أن حاجز الجيش السوري في منطقة العقبة، على مدخل البلدة، يمنع في كثير من الأحيان دخول المدنيين إليها أو الخروج منها، إلا إذا كانوا يحملون فواتير كهرباء أو ماء.
ويعزو مصدر عسكري صعوبة تنفيذ معركة شاملة في يبرود لسببين: الأول وجود أعداد كبيرة من المدنيين في البلدة، والثاني سهولة هروب المجموعات المسلحة نحو جبال لبنان والتوجه إلى عرسال، ما يتطلب عمليات نوعية تنطلق من النبك، مروراً برنكوس، وصولاً إلى الزبداني، وكلها بلدات وقرى يتصل بعضها ببعض عبر سلسلة الجبال القلمونية.
لم يغادر معظم أهالي يبرود بيوتهم، وقد زاد عدد سكانها الـ 50 ألفاً (نحو 30% من سكانها مسيحيون)، إلى نحو 80 ألف نسمة بعدما لجأت إليها أعداد كبيرة من النازحين من حمص. وإلى الحصار، يزيد الأمور صعوبة وجود مجموعات تكفيرية تعمل على فرض قوانين غريبة عن بيئة المنطقة، كإنزال حكم الجلد في مجموعة من الشبان ضبطوا يشربون الكحول، إضافة إلى تحطيم المحال والاعتداء على كنائس. وقد فرضت هذه المجموعات «الجزية» على المسيحيين، وسمي الصندوق الذي وضع لجمعها في الكنيسة «صندوق المحبة لمساعدة النازحين». فيما فُرضت الزكاة على المسلمين للغرض نفسه.

صيدنايا: لا معلولا ثانية

فوق تلة جبلية، تقع بلدة صيدنايا البلدة التاريخية المعروفة بتراثها المسيحي الغني وأديرتها وكنائسها التي تعود إلى بداية انتشار المسيحية في المنطقة. ويعدّ دير سيدة صيدنايا ثاني أهم صرح مسيحي بعد كنيسة القيامة في القدس. الهدوء الحذر يسم الحياة في صيدنايا اليوم. لا يزال سكانها يتنقلون بينها وبين دمشق التي تبعد 25 كيلومتراً. لكن الرحلة التي كانت تستغرق 25 دقيقة باتت تتطلّب أكثر من ساعة بسبب تحويل الطريق الأساسي الذي كان يمرّ من دمشق عبر برزة والقابون إلى طريق من خلف جبل قاسيون، وصولاً إلى معربا، ليمر بمحاذاة منطقة التل ثم معرونة فمعرّة صيدنايا، وصولاً إلى البلدة. وقد تحوّل هذا الطريق الفرعي الذي كان يندر سلوكه قبل الأحداث إلى ما يشبه أوتوستراداً دولياً، وخصوصاً حين يُغلَق المدخل الشمالي لمدينة دمشق من جهة حرستا والقابون.
تشرف البلدة على سهل ومرتفعات جبلية من معرة صيدنايا ورنكوس وبدا وتلفيتا، لتشكل موقعاً استراتيجياً يكشف تحركات المجموعات المسلحة في الجبال القريبة منها. وقد عمد سكان المدينة إلى تشكيل لجان حماية، وخصوصاً بعد تكرار الحوادث الأمنية التي أدت إلى مقتل شبان من القرية في فترات سابقة، ومنعاً لأي هجوم مسلح عليها مشابه للهجوم على بلدة معلولا الواقعة على مسافة كيلومترات، وخصوصاً بعد وصول أعداد كبيرة من المقاتلين السلفيين إلى قرى قريبة منها، فيما تنتشر وحدات معزّزة من الجيش في المنطقة التي تضمّ سجن صيدنايا المركزي ومحطة الباسل للاتصالات الفضائية ومواقع الرادارات على التلال خلفها.
بالقرب من صيدنايا تقع بلدة تلفيتا التي أعلن الجيش قبل أسابيع قليلة طرد المجموعات المسلحة منها، بعدما كانت مجموعات مسلحة تنطلق منها لشن هجمات على أطراف صيدنايا. وفي الطرف الخلفي للبلدة، تقع رنكوس التي تشكل مركزاً أساسياً للمجموعات المسلحة، وهي تتصل مع حوش عرب وعسال الورد، وصولاً إلى يبرود فعرسال اللبنانية.
تنتشر في رنكوس مجموعات من «جبهة النصرة» و«الجيش الحر» و«جيش الإسلام» الذي يقوده زهران عبد الله علوش المدعوم من الاستخبارات السعودية، ويعدّ القوة العسكرية الأبرز. ويؤدي تنوع الكتائب المقاتلة في البلدة إلى فلتان الأمن وصعوبة تحديد الجهة المسؤولة عن تسيير الأمور فيها. وقد أدّى انفجار سيارة مفخخة قرب مسجد خالد بن الوليد في رنكوس، قبل أسابيع، إلى مقتل نحو 60 شخصاً وجرح المئات. وعلى الرغم من اتهام معظم صفحات «التنسيقيات» والكتائب المسلحة النظام بالمسؤولية عن التفجير، إلا أن هناك صفحات تحدثت عن حرب تصفيات بين المجموعات المسلحة.
وتمدّ رنكوس ريف دمشق بمئات المسلحين الذين يقاتلون في مناطق الغوطة. وبحسب مصدر عسكري، يعمل الجيش على قطع الإمدادات بين منطقة دوما في الغوطة الشرقية ومنطقة رنكوس، تمهيداً لمحاصرتها من جهة دوما بالتزامن مع تقدم الجيش في ريف دمشق، وفرض حصار ثان على المجموعات المتحصّنة في القلمون. فيما تزداد التحصينات العسكرية في صيدنايا استعداداً، ليس لمواجهة هجمات متقطعة، بل لمعركة قد تعلنها المجموعات المسلحة على البلدة، وخصوصاً إن سجّل الجيش تقدّماً في القرى والبلدات المجاورة.