عُرف مبدأ «تسييس التاريخ والآثار» في العالم مع نشأة الحركات القومية التي ارتكزت على المعالم الأثرية لتعطي لنفسها عمقاً تاريخياً وتشريعاً بالوجود. ويؤثر تداخل السياسة في الآثار كثيراً على علاقة الشعوب بتاريخها، وعلى نظرتها الى نفسها. لذا، تعمل الجامعات منذ أكثر من ثلاثة عقود على دراسة هذا المصطلح المسمى «تسييس الآثار».
يمكن القول بأنّ الحرب القائمة في تدمر حالياً هي بإمتياز عملية «تسييس للآثار» يقوم بها الطرفان المتحاربان.
بالنسبة إلى تنظيم «داعش»، فهو اختار أن يبرز قوته وجبروته من خلال هدم المعالم الأثرية. فانتقى أكبر المعالم في المدينة الأثرية، وأكثرها رمزية ليفجّرها. هكذا دمر معبدَي بل وبعل شمين، ثم هدم قوس النصر ليؤكد أن لا نصر آخر في تدمر بعد نصره. وليكمل مجزرة محو التاريخ، لم يوفّر المقابر التدمرية الفريدة من نوعها في العالم. فحوّلها الى ركام. ولأنه لا يكتفي بالحجر إنتقل الى البشر. فاستخدم المسرح الروماني ليبرز «عرضه المسرحي الحيّ» في عملية إعدام 26 جندياً من الجيش السوري أمام حضور شعبي يشهد من على المدرجات هول ما يحصل. ولم يقف الإرعاب عند هذا الحدّ، بل أعدم ونكّل بجثة من يعده أهل المدينة «حامي الآثار»، وهو العالم خالد الاسعد (الذي يبحث أبناؤه عن جثته) بعدما دمّر كلّ مقتنيات المتحف التي تبرز الوجوه.
انتقى «داعش» أكبر المعالم وأكثرها رمزية ليفجّرها

يستمد «داعش» سلطته من الخوف، فيعرض «انتصاراته» على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى شبكة الانترنت. هكذا تكبر رقعة الخوف، لتمتد من تدمر الى العالم. ويبدو واضحاً أن عمليات التدمير لم تكن تأتي بشكل عفوي، بل كانت ممنهجة ومدروسة في التوقيت. فكلما خفّ الكلام عن «داعش» في وسائل الاعلام، برزت عملية تفجير جديدة لإعادة التنظيم إلى الواجهة.
ومع اللعب على هذه الأيديولوجيات السياسية، يأتي اللعب على تلك الدينية منها، فيبرّر «داعش» عمله بأقاويل وبدع دينيه يبتكرها، في حين أنه يخبّئ عملية إتجاره بالآثار. فليس هناك ما يثبت أبداً أن عمليات التفجير المبرّرة سياسياً وايديولوجياً، لا تخبئ تحت أنقاضها عملية سرقة للآثار بهدف بيعها في السوق بأسعار خيالية لأنها الشاهد الأخير على معالم تدمر. هكذا يكون تسييس «داعش» لتدمير الآثار مربحاً له على كلّ الأصعدة.
عملية تدمير الآثار في تدمر جاءت على شكل صفعة على وجنة العالم الغربي، الذي يعدّ حضارة تدمر جزءا من حضارته، إذ تتميّز «عروس الصحراء» بتلاقي ثقافات العالم القديم اليونانية والرومانية بالمحلية منها. ومعالمها الأثرية من معابد ومسرح، وطريق معبّدة مزيّنة بالأعمدة، تشبه إلى حدّ كبير المعالم الرومانية حول البحر المتوسط. فأتت عملية المطالبة بالمحافظة عليها مضنية. وبما أنه لا بدّ من ان يحمل تدخل القوات الروسية في سوريا بعضاً من دور الغرب في المحافظة على الآثار، كان لا بدّ من تحرير آثار تدمر من جبروت «داعش».
هكذا يمكن الافتراض أن المعارك التي شهدتها المدينة، لم تسعَ الى تحرير سكانها. هؤلاء أدركوا ذلك وهربوا مع «داعش» خوفاً من القتل بسبب مبايعتهم للتنظيم الإرهابي. كما أن المعارك جرت بعيداً عن الموقع الاثري للمحافظة عليه، وهذا ما أكدّه ضباط من الجيش السوري التقيناهم في المكان، وأكدوا أن «الأوامر كانت بعدم الاقتراب من الموقع مهما تطلب الامر».
انتهت المعارك بانسحاب قوات «داعش» من تدمر، ودخول السلطات السورية إليها، لتبدأ معها مفاوضات عالمية حول ضرورات ترميم تدمر وإمكانيات ذلك. وهذا ما يمثل فرصة للنظام السوري لكي يؤكد للعالم الغربي أنه يلتقي معه على مبدأ المحافظة على الآثار والتراث والتاريخ، ما يمكّنه من الدخول مجدداً إلى العالم الذي طرد منه. هكذا يكون الطرف الأول قد بنى قوته بالهدم، والثاني بالإعمار والمحافظة. وفي الحالتين كانت الآثار والتاريخ هما الرهينة.




الصور التي لا نلتقطها

ليست الصور التي تنشرها الجرائد هي كلّ ما تلتقطه أعين الصحافيين. هناك صور تعجز عن نقلها عدسات الكاميرات، كتلك التي تبرز الجثث المحترقة على قارعة الطريق والتي يصوّرها البعض يومياً ليدرسوا على هواتفهم سرعة تحلّل الجثة المحروقة في شمس الصحراء!
وهناك صور لما يمكن أن تكون جثثاً رُميت في مجاري الصرف الصحي الروماني، التي نثرت فوقها الرمال. الذباب، كما رائحة النتن، اللذان يملآن المكان يدلان إليها. وهناك صور جثث لمقاتلي قيل إنهم من «داعش»، مرمية في العراء بلا رؤوس...
ذاكرة الحرب اقوى من الصور الملتقطة، ورائحة الموت اقوى من العطور، وصمت ألم السكان أعلى من هدير الطائرات. ليس كل ما كتب وما صور هو كلّ ما شهدنا عليه.
* ممثلة منظمة «الدرع الأزرق»