حين استفاق غريغوري سامسا ذات صباح من كوابيسه، وجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمة. ببُطء، دفع غريغوري سامسا نفسه مع الكرسي نحو الباب. اتّكأ عليه واقفاً ثم ترك الكرسي مكانه. كانت أطراف أرجله الصغيرة دبقة بعض الشيء، وبدا، للأسف، أنه لم يعد يملك أسناناً حقيقية. بأي «شيء يمكنهُ أن يُمسك المفتاح؟».في عالم آخر مختلف عن فرانز كافكا وعن أبطاله، يعني في يومنا هذا، وعلى بُعد ثلاثة مبان من الشقة التي أقطنها، وخزت الوسادة رأس غسان فاستيقظ قبل طلوع الفجر. طرد غسان من نومه ووجد نفسه مستفيقاً قبل رنين المنبّه بوقتٍ ليس بقصير. بدا صاحياً، لكنه كان منهكاً، وكان العرق يتصبّب من كل جزء من أجزاء جسده.
«تيك تاك، تيك تاك، تيك تاك» من فوق وتحت، ومصباح الغرفة لا يُضيء. أدرك أن الكهرباء، مثل العادة، مقطوعة. فصاحب المولد قد أطفأهُ ليريح المحرك من ضغط توليد الطاقة. قبض غسان على الوسادة، غطّى بها رأسه وشدّ عليها بيديه. محنوقاً والكلام لا يخرج من فمه لشدة كزّه على أسنانه صاح «متى نستريح نحن بحق السماء؟».

رسم (ميليلسا شلهوب)

رؤيته زائغة لأن عينيه نصف مفتوحتين، وعلى قدم واحدة بالكاد تستطيع أن تتحمل ثقله، خلع غسان ملابسه، وقف تحت «الدش» وفتح الصنبور. نقطة، اثنتان، ثلاث ثم سبع دفعة واحدة قبل أن تتوقف دورة المياه. أعدّ فنجان قهوة آملاً بأن يصقل مزاجه فينسيه ما مرّ فيه، وما قد مرّ به. كان القرف يحيط غسان من كل حدبٍ وصوب. كان قرفاً من نفسه. كان قرفاً أيضاً من الظروف المقرفة التي أودت به إلى حاله هذه. وهو ساخط ومختنق لأن استيقاظه صباحاً معناه التفاعل، رغماً عنه، مع الحشود، ومع ما يخبئه له نهاره. على هذا النحو، خرج غسان إلى الشارع ليبدأ بمهمته: البحث عن العمل، وهي مهمة تعني لغسان، البحث عن خلاصه.
في كل مرة حطّ في مكان، راح يسأل عما إذا كان هناك من وظائف شاغرة، وكان يجابه دوماً بالرفض إلا أنه لم يفقد عزيمته، بل سار بمهمته حتى آخر نفس. قيلت له كلمات كثيرة، بعضها نمّ عن شفقة «أعتذر يا بني، فأنت ترى الحال» وآخرون جابهوه بنظرات مُشمئزّة وإيحاءات غليظة، كتلك الحادثة التي حفرت فيه ولم يطوها النسيان. فبعد يوم طويل من البحث، جاءته من صاحب محل خُضَر، ورقة قدرها خمسة آلاف ليرة، كان قد لفّها الأخير ووضعها في يده، بحُسن نيّة، كصدقة. شعر آنذاك أن العالم ينكمش. شعر كأنه في موقف إعدام. كأنّ حبلاً يعتصر رقبته، يخنقه، يقطع أوردة حنجرته، يقطع عنه أنفاسه ويقتله ببطء. شعر أن الأرض تميد من تحته وتهتز. تسمّر غسان في مكانه؛ العالم التفّ حوله. صارت الحركة من حوله كثيفة ومغبشة حتى استحالت عليه الرؤية وانهار.
قرّر غسان العودة إلى منزله. كان ينظر طيلة الطريق، في باطن يده حيث الخمسة آلاف تلامس كفيه. كل الأشياء من حوله بدت ضخمة بشكل لا يصدق. المباني، والسيارات، وأقدام العابرين. كان يرى كل ما يحيط به على أنه بمنتهى الكبر بشكلٍ مهول، كل شيء بدا له بالغ الضخامة، باستثناء حجمه. كان ينظر إلى نفسه على أنه كائن بمنتهى الضآلة. وما عزّز له شعوره هذا هو عندما وصل، بعد صعوده الطوابق الأربعة التي تسلّقها وكأنها جبال، إلى منزله. فعقب وصوله، قابل أباه، ولمحه، بطرف عينه، ولم يكن من الصعب عليه أن يتلقف سيماء الخيبة البارزة على وجه والده، ما زاد من كآبته.
غسان مثل غريغوري سامسا؛ تحول كلاهما إلى «حشرة». وما الحشرة سوى رمز المطحونين من استبداد الأوضاع المزرية. كافكا أيضاً كان يتعرّض لإهانات من والده حيث قام بتشبيهه بالحيوانات بغية استحقاره وتقزيمه. ففي روايته «التحوّل» يلتزم غريغوري سامسا بدفع الديون المستحقة على والده، كما أنه ألزم نفسه بهموم أخته حيث قرر أن يلحقها بمعهد موسيقي لتتعلم الموسيقى، لكن عند تحوله إلى حشرة انتبه إلى أن كل مشاريعه قد تعطلت. وهذا مألوف للغاية، إذ كم من حلمٍ، أو مشروعٍ معطل نسمع فيه وعنه، وكم من غريغوري سامسا هناك اليوم في لبنان؟ جيل كامل كان يبني طموحاته وأحلامه حتى جاء «قطار الأزمة» ودهس كل رغبةٍ أو فرصة قابلة للتحقيق.
«حذار من المكوث في الفراش من غير نفع» كما يقول كافكا على لسان بطل الرواية، لكن سامسا يصل بعد إدراكه حقيقة تحوله إلى حشرة، إلى قناعة مفادها أنه ليس بحاجة سوى أن يكون طريح الفراش تعبيراً منه عن فقدان الأمل والشغف والرغبة. أليس هذا الفقدان هو «مثلث المفقودات» في قلب كل شاب اليوم في لبنان؟ لا أزال أذكر أحد المتظاهرين الذي قال لأحد المراسلين في بثٍّ هوائي مباشر: «حاسس حالي ما إلي عازة». والعبارة تلك تُنقل، أو تُترجم إلى الفصحى على الشكل التالي: أشعر أن لا قيمة لي. تصريح فيه من الصمت أكثر من النطق، يقع على تخوم الكلام، وهو باللغة الصامتة هذه، يفيد بغياب المعنى عن الحياة. هو تعبير عن عيش لا معنى فيه، أو له. اعتراف ذلك الشاب يطابق حال غريغوري سامسا، وهو أيضاً، عنوان يختزل وجوده المسحوق. فما أفصح به ذلك الشاب، هو حالنا جميعاً ليس فقط، لأن قيمته، كإنسان، هي قيمتنا جميعاً بل لأن شعوره أيضاً هو شعورنا جميعاً.
في معرض تحليله لرواية كافكا، يقول وليام إمريش: «إن حلم غريغوري سامسا هو في الوقت نفسه أكثر من حلم. إنه السر الذي يتحدث عن كل شيء ورغم ذلك لا يمكن لأحد أن يتحدث عنه. «الحقيقة تظهر لو أصبحتم أنفسكم مَثَلاً» وتحوُّل سامسا هو انتقال ذاته إلى مَثل، هناك فقط تصبح هذه الذات حقيقية وتقوّض كذب العالم البشري. ما هي حشرة سامسا إذاً؟ من الجليّ أنها شيء يحسه الجميع شيئاً غريباً، مرعباً، لا يُحتمل. تحوله إلى حشرة يقذفه خارج كل مألوف ويجعله غريباً ومرعباً بالنسبة إلى الآخرين».
لقد كان كافكا يكره وظيفته التي شغرها في مكتب البريد أو «مكتب الرعب» كما لقّبه. يقدم كافكا عالم الوظيفة بصفته «تكليفاً بما هو أكثر من طاقة الإنسان: الروتين الإداري والعلاقة الشنيعة بين الرؤساء والمرؤوسين» لأن «كل هذا العمل في النهاية يؤدي إلى ضعف الحافز الداخلي، ويجعل الانمساخ يبدو انمساخَ حرمان، انمساخاً ذاتياً ناتجاً من الرغبة اللاواعية بالتخلص من العذاب النفسي الذي يسببه العمل المكتبي» كما كتب إبراهيم وطفي ناقد ومترجم أعمال كافكا.
وإنهُ، فضلاً عن كل ما تمثلهُ الحشرة من رمز إلى الإنسان المسحوق، المدفون تحت وطأة العيش اليومي، فلا ريب إذاً، أن الاغتراب عن عالم التقدّم المُحيط بنا لا يسمح للمرء بالتريث والتفكير بنفسه، إنما الجريان السريع نحو الخلاص المتمثل بالوظيفة، والتي بدورها، في حال الحصول عليها، تقدم تدريجي نحو الموت. أما في حال غيابها، فهذا يعني غياب ما نعتقده زيفاً بأنه خلاص. يبدو أن لحظة التحول إلى حشرة، كما هو مقدّر لأزماتنا أن توجد وأن تتأصل، هي صيرورة دائمة. هكذا، يصبح العيش لا معنى له، وما حال واحدنا إلا «أن يكون حاسس حالو ما الو عازة». عالم كافكا، وعالم شخصياته الروائية، يُضاف إليهما عالم غسان وذلك المتظاهر وأنا، هم هذا العالم الذي حوّلنا كلنا إلى حشرات.