تُصغي وديعة بحذرٍ إلى العتمة، كأن أذناً أخرى تنبت لها عوضاً عن الأذن التي أُصيبَت جرّاء انفجار مرفأ بيروت، وأخسرتها بعضَ القدرة على السمع. تغفو في السادسة مساء تقريباً، وتستفيق قبيل منتصف الليل. تكون متيقّظة حين تُظلم السماء ويخلو الشارع من العابرين. تحرس بأذنيها مسترقة السمع إلى أدنى جلبة: أبعدها أو أقربها (لا تعلم حتى الآن). هو فحيح أفعى ذلك الذي يتناهى إليها يوميّاً عند الثالثة فجراً قرب جسر السيّدة في الأشرفيّة. ما إن نقلت أغراضها وأثاث بيتها إلى الشارع منذ 18 يوماً، حتى حذّروها قائلين إن هناك أفاعي في المنطقة. لم تر واحدة منها حتى اليوم. قالوا لها أيضاً إن الأفعى لا تَقرَب من لا يؤذيها. هدأت قليلاً، لكنها لم تكفّ عن الاستعانة بالأفعى للإشارة إلى الشرور التي تتربّص بها كل ليلة في إقامتها تحت الجسر.هُجّرت المرأة الستّينية من مطعمها الصغير في منطقة الجعيتاوي، حيث كانت تعمل وتنام حتى الشهر الماضي. كان بيتها هو مطعمها، إلى أن أبلغها أصحاب الملك بأنّ عليها إخلاءه قريباً. بحثتْ عن سقف في الشارع، فلم تجد فوقها إلا الجسر، بالقرب من كنيسة السيّدة. نحكي عن النوم، لأنه أُفلِت من عينيها. الهواء مهما كان خفيفاً بات قادراً على خدش طبلة أذنها. والريح التي هبّت في بيروت فجر أوّل من أمس اقتلعت أغصان الشجرة المجاورة، فاخترقت بيتها المؤقّت كسكاكين. وقعت كأساها الزجاجيتان عن الطاولة، وأُصيبت قدمها بجروح، لذا قرّرت أن تستبدلهما بكؤوس بلاستيكية. هذه قصّة ليلة واحدة، روتْها لنا على الهاتف فجر أمس، وكانت الريح لا تزال قائمة، تخترق الموجات الصوتيّة بيننا. الشارع هو دُمية الريح السريّة: تطيّره وتعبث بمحتوياته وسكّانه. والشارع هو دمية الجرذان وحرّاس المدينة الأمنيّين الذين يحطّون فجراً أمام مقرّ نومها أو صحوها، مطالبينها بإخلاء الجسر. أرقٌ حذِر، وحين تغفو قليلاً على الكرسي تُغلق عينيها نصف إغماضة، كناطورٍ بدوام لا يؤذن بانتهائه. ازرقّت قدماها ويداها، لا تعلم أمِن البرد أم بسبب مدّها طوال الليل على الأرض. هذا ما يصيب الجسد حين يصير وحده في العراء، حيث لا جدران من الجانبين، وهكذا تتساقط زوايا البيت وغرفه ومراحيضه ومراياه حين يصير الشارع بيتاً. كأنّ العراء هو كل الجهات التي كانت تحيط بها، وذلك قبل الزلزال التركي المرعب. فقدت بيتها قبل أن يفقد الآخرون بيوتهم، لهذا ربّما لم تشعر بالهزّة الأرضية ككل سكّان بيروت، رغم أنها تبقى صاحية طوال الليل، لأن لا خيار أمامها كما تُذكّرنا.
لو أردنا أن نرى صور وديعة في بيتها المؤقّت تحت الجسر، لبانت بديهيّة بين صور المهجّرين في بيوتهم في سوريا وتركيا، ولو أدرناها أمام خلفية بيروت، فسيبدو سقفها المصير المرعب لسكّان المدينة في الأيّام الآخذة في الظلمة والحذر.
(نص: روان عز الدين)

(مروان بوحيدر)


(مروان بوحيدر)


(مروان بوحيدر)


(مروان بوحيدر)


(مروان بوحيدر)


(مروان بوحيدر)


(مروان بوحيدر)


(مروان بوحيدر)


(مروان بوحيدر)