كان لا بدّ لي من مكان أنزّ به دمي كتابة. بعض المنشورات على موقع «فايسبوك» منذ سنين خلت، وتغريدات بين الحين والآخر على موقع «تويتر» لم تكن كافية. لديّ الكثير من الكلام لأقوله. دمي الذي يسيل على الطرقات بين أرجل العاملين والباعة المتجوّلين، قصصهم وقصصي، وتلك الدماء التي تسيل على شكل دموع على المخدّة، ولتلك التي تنزّ من ظهر مجلود تحت سياط جلاد: تجربة خاصة وعامّة. دمي الذي يسيل والدم الذي ينمو كالطحالب على الجدران في أوقات الأزمات يجريان في عروق تجربة بدأتها باللحم الحي كما يقال، وتمتد لثلاث سنوات تقريباً ككاتب في مُدوّنة خاصة، على موقع «وورد بريس».
(تصميم: فرانسوا الدويهي)

أن تكون مدوّناً، بإمكانات بسيطة وخجولة، قد لا يؤمّن لك الفائدة المرجوّة، إلا أنه يجعلك تعيش الحرية. أن أملك ناصية أكتب عليها ما يجول في خاطري من أفكار، بالشكل الذي يطيبُ لي، كان لذلك طعم الانعتاق من السجن، حيث لا سياق ولا شكل ولا توقيت تمنع تدفق الأفكار التي تنحشر في جمجمتي كبيوت النمل تحت الأرض، وهذا أكثر ما جذبني لأن أُصبح مدوّناً، لأن في التدوين ذكرى. في تدوين ما يجول في خاطري علاج غير خاضع لأي معيار فني أو ثقافي أو حتى شكلي في مسارات محددة مسبقاً من قبل الناشر. في التدوين أنا هو المسؤول عن الموضوع والكلمة واللفظ والشكل وحجم القطعة وكمية الكلمات. أنا من يحدد الشكل الذي سيظهر به نصي. أنا سيّد النص ومالكه. أنا الجلاد والضحية. أنا القاتل والمقتول. أنا ضمير المُخاطب والغائب والمُتكلم، كاتب السيناريو والمُخرج والممثل من دون أن أكون متموضعاً تحت مقصلة الرقابة. الرقابة التي قد لا تكون سياسية أو اجتماعية، فالنشر عموماً، على الإنترنت أو على مواقع التواصل الاجتماعي، يحمل رقابة من نوع ما. ففي التدوين، أنا المُحرر والمتحرر من الأعباء. متحرر من زجّ كتابتي في مواقف لا تناسب كاتبها، ومتحرر من الرقابة التي تخص سلطة المحرر التي تزيل أو تضع جملاً وخيارات محددة فتروّض الكاتب أي تعيد تشكيله كما يتشكل الطين. يمكن للمحرر أن يطمس صوت الكاتب، أو في أفضل الأحوال، أن يغير من نبرته وفقاً لأنغامه الشخصية. في التدوين، يموت المحرّر. التدوين، هو في حد ذاته، فسحة تحرير، لأنه يحرر المدوّن من الرقابة، ولأنه، يعيد الكتابة إلى أصلها. ففي لساننا العربي عندما نقول «تحرير» نعني الكتابة. على هذا النحو، إن المدوّن هو ذلك الكاتب المتحرر الذي يسعى إلى تحرير من يقرأه لأنه يأبه بالحرية.
من هنا، إننا غالباً ما نجد فعل التدوين مرافقاً للعمل السياسي. فلكل نظام هناك من يدافع عنه، بيد أن ساحة الاعتراض والمشاكسة، لا تخلو من وجود المدوّن الذي يملؤها بأفكاره الساخطة التي تزعج النظام وتهدّده. من هذه الممارسة تحديداً، فإننا غالباً ما أعطينا للمدوّن ملامح ذاك المعارض الشرس للنظام. فالتدوين، وبالأحرى المدوّن، يشبه بمسيرته وبمزاياه، التاريخ السياسي النضالي، لأنه صائن القضية وحاملها، إذ إن التجارب المستقلة عن الأنظمة تحتاج إلى الكفاح كي تصمد، كما تحتاج إلى الكثير من الشغف لكي تحافظ على هدفها. فالمدوّن غير مموّل من أي جهة، فالجهات التي تموّل، غالباً ما تضع شروطاً على الكاتب، ما يُعتبر انتهاكاً للحرية أو عدوّها، وهذا في معجم المدوّن، نقيض قضيته، بل نقيض وجوده كمدوّن من شأنه الانطلاق من الحرية والوصول إليها.

يمكننا عطفاً على ما ذكرناه آنفاً، ذكر العديد من الأمثلة عن المدوّن المقرون بالعمل السياسي والمرهون فيه حيثما يمارس التدوين على أكمل واجب، وينجز مهمته التحررية على أكمل وجه. لديك على سبيل المثال، المدوّن الفلسطيني الشاب خالد الشرقاوي، الذي حمل معاناته ومعاناة الشعب الفلسطيني في أواخر عام 2008، أثناء عدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة حيث قال :«نجحت من خلال مدوّنتي الخاصة في رسم صورة حقيقية وواقعية للحرب الأخيرة التي تعرّض لها قطاع غزّة ونقلها إلى العالم، من خلال التركيز على نقل ما يرافق الأحداث والأخبار من أحاسيس ومشاعر الناس». فكانت مُدوّنته كما وصفها في حديث طويل هي كفاحه في وجه هذا العدوان، في وجه آلة القتل التي لا تتوقف عن سفك الدماء. وفي الكثير من الحالات الأخرى وجد التدوين طريقه في السجون والمُعتقلات مثل رواية «شرق المتوسط» للكاتب السعودي عبد الرحمن منيف، أو رواية «مذكّرات من منزل الأموات» للروسي فيودور دوستويفسكي التي تتحدث عن السجن والنفي في معتقلات سيبيريا. أما عزّت بيجوفيتش فقد كتب في بداية كتابه «هروبي إلى الحرية» ما يلي: «هذا هو هروبي إلى الحرية. وللأسف، بالطبع، لم يكن هروباً حقيقياً ولكن كنت أتمنى لو كان كذلك. كان هذا هو الهروب المُتاح من سجن فوتشا بجدرانه العالية وقضبانه الحديدية، هروب الروح والفكر».
أما مارك فيشر الكاتب والمدوّن والفيلسوف البريطاني، «ذو الروح المرهفة الحساسية» فقد انطلق من فكرة فقر الخيال التي أصابتنا في عهد الرأسمالية المتأخرة. فيشر الثائر في حياته وفي موته، وجد في التدوين مِقلع شوك من حنجرته وروحه. كان طيلة فترة حياته، مهجوساً بخلق رأي عام تقدمي وثقافة مُضادة تواجه هذا العصر الذي أسماه «الرأسمالية المتأخرة». كان القرّاء والنقاد ينتظرون تدويناته ليردوا عليها أو لكي يتسلحوا بحججه ويناظروا بها. فيشر، مثل غيره من المدوّنين، كان على دراية تامّة أن الحرية هي سعي الإنسان الأول وملاذه الأخير، وعندما حاصرته كآبته وأسرته في كنفها، قتل نفسه. إن الأمثلة عن التدوين لا تُعدّ ولا تُحصى، تشترك جميعها بكونها أسلوباً يمكن تصويره بأنه طريق وعرة، غير معبّدة، وقد يفضي إلى اللاشيء في بعض الأحيان، ولكنه يبقى، على الرغم من ذلك رسالة في السجلّات لفترة قد تمتد قروناً، تماماً كما حدث مع دوستويفسكي ومنيف. رسالة في وجه الاستبداد والظلم، بمعنى أن يمتحن الإنسان ويتكلّم عن امتحانه.
ولو جاءت على شاكلة فقرة قصيرة، هنا والآن أي في نهاية هذه التدوينة، لكنني سأنتقل إلى ذلك الحيّز الخاص الذي يشغلني، أي فعل التدوين الذي أمارسه كمدوّن وأفصح عن التالي: قد يتشابه المدوّن مع الناشط الملقّب بالـ activist والذي يبدو كأنه طفرة هذا الزمن، أو «متحوّر» من سلالة «الرأسمالية المتأخرة» على حدّ تعبير فيشر. يمكن للناشط أن يكون مدوّناً، على أن المدوّن هو بحد ذاته ناشط، ليس فقط بحكم كتابته بل لأن قضيته لا تتوارى واضحة كالجملة الأولى في هذه المقالة. في حين أن ذاك الناشط ينزلق إلى هوّة التسليع والاستهلاك، فيُصبح، عالماً أو جاهلاً بذلك، أداة من أدوات تلك الأنظمة التي كان لها المُدوّن مُعارضاً. قد لا تفضي هذه التدوينة إلى أي نتيجة لكن، بالنسبة إليّ فأنا مُناصر للصُّراخ. أهيم بالصُّراخ وأقوم معه، ليس طمعاً بالنتائج، ولكن لكي لا يقال إنه في الظرف كذا وفي الصراع ذاك وفي الجنون المُعمّم هذا، كان ثمّة صامت هنا.