مجموعة من المحتفلين بعيد حصاد العنب يسيرون مخمورين بالنبيذ متنكّرين بأزياء هزليّة يتدلّى منها قضيب ضخم يرمز إلى الخصوبة، فيما يتبادلون النكات السياسية البذيئة. هذه هي الصورة الأولى للكوميديا: صورة موكب ديونيسوس الماجن الذي يسمّى كوموس، والذي يدور على وقع أغنية كوموديا.لا تستطيع تلك الصورة البعيدة وحدها أن تمنحنا تعريفاً كاملاً لمفهوم الكوميديا بمعناه الحديث، إلا أنها تساهم في توضيح المشهد وارتباطه الوثيق بإله المسرح والخمر ديونيسوس لتكون الوجه الضاحك في مقابل وجه ديونيسوس الباكي المتمثّل في التراجيديا. وتراغوديا أي أغنية الجدي هذه هي الأغنية الثانية لموكب الإله ديونيسوس وكانت أشبه بمسيرة ذات طابع صوفي، يسير فيها المتعبّدون ويقومون بأفعال غريبة ونافرة كأن يقتلوا الحيوانات الصغيرة ويأكلوا لحمها النيّئ إلى أن تحلّ فيهم روح الإله من فرط النشوة والاندماج ويتحول الحزن إلى صلاتهم الروحية.

بادريك (كولين فارل) في مشهد من «جنيات إنشيرين»

وقد بدأت اليونان القديمة تشهد مولد الفلسفة الأثينية ومولد الكوميديا الإغريقية معاً بعد موت ثالوث التراجيديا المقدس: إيسخولوس وسوفوكليس، ويوريبيديس الذين لم يعش الفن التراجيدي بعدهم إلا بصورة هزليّة.
في حضرة ديونيسوس إله المسرح والخمر، نجد أنفسنا أمام ثنائية التراجيديا في مقابل الكوميديا. حينما نخاطب النفس البشرية ونوازعها والقيم الأخلاقية والإنسانية نتّخذ قالب التراجيديا لنطهّر أروحانا من شوائبها بشكل صوفي ونبكي لموت روميو ولانتحار كليوباترا. وحينما نلتقي بالمأساه الاجتماعية أو السياسية وجهاً لوجه يصبح القالب الكوميدي ملاذنا الأوحد لتجاوز الكارثة: نتنكّر بأزياء لها قضيب متدلّ، نرقص بمجون، نسخر، نمزح، نتلاعب بالبذاءة والتهتك، نحطم تابوهات حديدية متعالين على مأساتنا من أجل فهمها وتجاوزها.
وتجاوزاً لمفهوم الكوميديا الكلاسيكي القديم، ولكي نعرف فنّ الكوميديا مثل أيّ فنّ درامي، لا بدّ من وجود قوّة متصارعة تخلق ما يسمّى بالتعقيد. وتختلف الكوميديا عن التراجيديا في أنها تعتمد على إمكانية حلّ هذا التعقيد بإحلال نوع من التوافق بين هذه القوى المتصارعة وتعلن الانتصار للحياة، عكس التراجيديا التي تؤجّج الصراع بين القوتين حتى وإن انتهى بالموت لتعيش القيمة المطلقة فيموت كل من روميو وجوليت وتعيش قيمة الحب.
لا بدّ من التعريج على مفهومَي الكوميديا والتراجيديا للخوض في فيلم المخرج الإيرلندي مارتن ماكدونا الجديد «جنيات إنشيرين» (2022) الذي تدور أحداثه في عشرينيّات القرن الماضي على جزيرة إيرلندية خيالية. إنها جزيرة إنشيرين الخضراء الهادئة ذات الطابع الريفي، حيث الأغنيات المشؤومة للجنيات تُرافق أصوات مدافع الحرب الأهلية على البرّ الرئيسي المطلّ على الجزيرة بالتزامن مع حرب أهلية أخرى تدور بين الصديقين بادريك (كولين فارل) وكولم (برندان غليسون). يحدث ذلك حين يمرّ بادريك على صديقه كولم ذات صباح ليذهبا إلى الحانة كعادتهما كل يوم، ولكن كولم يفضّل أن يقطع أصابع يسراه التي يستخدمها في العزف، على أن يتحدث مع بادريك مجدّداً.
في «جنيات إنشيرين» تفوّق مارتن ماكدونا على نفسه، مقدّماً تحفة سينمائية على كل المستويات: سيناريو ممتع بحوار ذكي وصورة سينمائية عميقة تحاكي تداعيات الحرب على جزيرة إنشيرين باستخدام اللون الأصفر والأحمر والأزرق الرمادي. من ناحية أخرى، أدى الممثّلون أدوارهم بكفاءة تجاوزت العنصر البشري وأضفت طابعاً إبداعياً على حيوانات الفيلم ككلب كولم أو حمارة بادريك. كل هذا يحدث داخل إطار موسيقى تصويرية منحت الأحداث وقعاً جنائزيّاً كما لو أنها حوريّة تنذر بقدوم الموت إلى الجزيرة.
كل هذه العناصر تحوّلت إلى محطّ إشادة من قبل النقّاد، لكن المفاجئ هو تقديم الفيلم كعمل كوميدي من قبل صُنّاع العمل، في حين أنه لا يتقاطع مع الكوميديا كما تعرفها السينما. لهذا، سنجد أنفسنا أمام تساؤل مُلحّ: هل يمكن تصنيف فيلم «جنيات إنشيرين» على أنه فيلم كوميدي؟
لا نستطيع أن ننكر أن ثمة ملامح كوميدية داخل الفيلم تبدو كطيف من الخفّة مثل المشاهد التي يتكرر فيها تساؤل أصحاب كولم وبادريك ما إذا كان قد حدث بينهما شجار أو لا، ومشاهد دخول حمارة بادريك جيني باستمرار إلى المنزل وتترك روثها لتتعثّر به أخته شيبون باستمرار، أو مشهد استلقاء الضابط كيرني عارياً على الكرسي في صالة المنزل بعد استمنائه كل ليلة مرتدياً قبعة الشرطة الرسمية، ولقطة الاعتراف في الكنيسة بين كولم والكاهن وجدالهما حول اليأس والأفكار البذيئة عن الرجال. لكن هل تكفي هذه الملامح لتصنيف الفيلم كوميدياً؟
نجد أن أحداث الفيلم الكوميدية تتخلّلها لحظات من الغضب والانفعال والتحوّل المضطرب في إيقاع الأحداث التي يسيطر عليها الطابع المأسوي في النصف الثاني من الفيلم، إذ يتحوّل إلى تراجيديا عبثيّة تنتهي بالموت اختناقاً، والانتقام بإضرام النار، والفراق النهائي، والضرب، والوحدة.
كيف نستطيع أن نصف الفيلم على أنه عمل كوميديّ في ظل وجود كل تلك المشاهد القاتمة؟ كيف يكون الانتحار والتشوّهات الجسدية موادّ للإضحاك؟
نجح الفيلم في الاحتفاء بالسينما، لكنه فشل في إضحكانا. هل فاتنا شيء ما واتفق صنّاع العمل والنقّاد ولجان الجوائز على أن قطع مسنٍّ لأصابعه هو فعل يحقّق الكوميديا أم أنه يصيب المتفرّج بالغثيان والألم؟ وهل اختناق كائن وديع كالحمارة هو حدث كوميدي؟ ربّما يُصبح اليأس من الحياة هو الطريقة المُثلى للاحتفاء بها.

بادريك (كولين فارل) وكولم (برندان غليسون) في مشهد من الفيلم

وإن كانت الكوميديا النخبوية تتجاوز الجانبَين الهزلي والضاحك، فهي لا تُعنى بأن تقترن بالموت والخوف بقدر ما إنها تنشغل بتطوير فلسفة الكوميديا بعمقها وبنائها الداخلي، وليس بقالبها وظاهرها. إن الكوميديا بهذا المعنى هي احتفال الإنسان بقدرته على الاستمرار في الحياة، في ظل مآسيه الوجودية، كيأسه ووحدته وضجره ومصيره المحتّم بالموت. يصحو كولم على حقيقة أن الزمن انقضى وسال من بين أصابعه، ومعه سالت حياته الماضيه وفقدت قيمتها بلا إنجاز يذكر. حتى إنه لا يعود يقدر على إهدار لحظة من وقته في الأحاديث التافهة مع صديقه اللطيف والسطحي بادريك الذي لا تتعدّى قيمة الحياة لديه سعادته مع أخته وحمارته واحتساء مشروبه المُفضّل في الحانة.
تظهر تعاسة كولم من خلال عدم قدرته على الإنجاز والاكتفاء المادي في السابق، ليقرّر أن يجلس كل يوم لتأليف لحن جنائزيّ يُدعى «جنيات إنشيرين» الذي سيهديه إلى العالم بأكمله، وإلى صديقه القديم بادريك، على أن يعزفه في جنازته. هكذا يدور حوار غاضب بينهما في الحانة حول قيمة الصداقة والحبّ مقابل قيمة الموسيقى، فيختار كولم الموسيقى لأنها تبقى ويتذكّر التاريخ اسم مؤلفها، بينما لا أحد يتذكّر اسم إنسان لم يحقق شيئاً سوى أن يكون إنساناً لطيفاً.
هنا، تختلط علينا غاية الفيلم، فالعبثية في طرح قيمة الإنجاز ثم هدره وتحطيم قيمته المادية تجعل من العمل حلقة مفرغة تدور بلا نهاية. فكيف يؤمن كولم بأهمية أن يؤلف لحنه ويعلّمه لتلاميذه، ثم يقطع أصابعه التي لا يمكنه عزف لحنه من دونها، ثم يرميها على بيت صديقه كمن يلقي بقنبلة على عدوّ. أصابع كولم التي تعزف والتي تضمّ يد أصدقائه في لحظات الألم يضحّي بها قرباناً لمأساته الوجودية على طريقه فان غوغ الذي يقطع أذنه ويهديها إلى محبوبته قرباناً لحبّه.
يركز الفيلم على الأسى المدفون داخل أنفس سكان إنشيرين الذين يبدو أن الحرب أفقدتهم قيماً إنسانية كثيرة من دون أن يظهر على حياتهم الخارجيّة أيّ تحوّل مادّي ملموس، فالطموح الضئيل من الحياة لن يبقي على سعادتك، وإنما التعاسة هي مصيرك الحتمي قبل الموت. كولم هو وحده من تنبّه إلى مأساته وألقاها في وجه صديقه وأخته، حتى تحرّر هو منها وأصاب بها بادريك إلى الأبد.