لم تترك وكالة الأمن القومي الأميركي فرصة للحصول على المعلومات إلا اغتنمتها، حتى جعلت من يتجنّب الوقوع في شركها يدور في حلقة مفرغة، تتلخّص بما يأتي: الوكالة يمكنها أن تطلب من كل شركات الاتصالات والإنترنت (غوغل، فايسبوك، مايكروسوفت) كل المعلومات عن شخص معين. ومن ثم قد تطلب التجسّس على الشخص في المستقبل، مع إجبار الشركة على إبقاء ما تفعله طيّ الكتمان، وفي الوقت نفسه هي تتجسس على الشركات نفسها، من خلال مراقبة الكابلات البحرية، معتمدة على غواصات نووية للقيام بذلك! وذلك كي تحصل على المعلومات تلقائياً، دون الطلب من الشركات.
وعلى صعيد الأجهزة، تلجأ الوكالة إلى تلقّف ما يُرسل من معدّات عبر شركات التوصيل وتقوم بتغيير برمجة الأجهزة أو إضافة إلكترونيات جديدة إليها تسهّل عملية التجسس مباشرة على الأهداف التي اشترتها. وبعد ذلك يمكنها التجسس على الأشخاص من دون أن يكونوا متّصلين بالإنترنت حتى، عبر موجات الراديو التي تصدرها أدوات التجسس المضافة، أو عبر فلاش الـ«يو اس بي» المعدلة.
ما ذُكر أعلاه هو غيض من فيض الوسائل المستخدمة من وكالات التجسس. وإن كان بعضها صادماً، لكن كان من الممكن تخيّله من بعض الخبراء. حتى إن الروائي «جورج أورويل» في روايته «1984» التي كتبها في عام 1949 قد وصّف إلى حد كبير ما قد تبلغه الدولة في لعب دور الأخ الأكبر الذي وصلت إليه بعض وكالات الأمن القومي حول العالم.
وبالرغم من ذلك، استطاعت الوكالات أن تأتي بتقنيات كانت خارج المتوقع. من كان يفكر مثلاً في أن لعبة كـ«World of Warcraft» يتبارى فيها مستخدمون على الشبكة ستصبح مجالاً يفتش فيه الأميركيين والبريطانيون عن «أهداف» تتدرب على المهمات الحربية أو تحاول تجنيد آخرين! وسيلة أخرى كانت محاولة الحصول على «بصمة الجهاز» الذي يستخدمه الشخص حتى ولو كان خلف برامج حماية مثل (TOR)، فكل منّا لديه جهاز بحجم شاشة معيّن، وخطوط بلغة محددة يستخدمها، وغيرها من الخصائص والبرامج التي تجعل كل جهاز غير الآخر، وتخوّل تتبعه عبر مواقع الإنترنت التي يتصفحها. ثم إن تلك الوكالات قد استطاعت منذ أكثر من عقدٍ تشغيل الميكروفون في الهواتف عن بعد، حتى لو كان الهاتف مغلقاً، ومع أن إزالة البطارية تحمي من ذلك، إلا أن الكثير من الهواتف الجديدة لا يمكن فك بطارياتها، فتنتفي وسيلة الحماية تلك.
إضافة إلى كل ذلك، لم تعد وجوه الناس غريبة عن الطائرات بدون طيار، فقد زوّدت هذه الأخيرة بتقنية التعرّف إلى الوجوه. كما أنها قد تزوّد بأجهزة لدى الوكالة تُستخدم لاختراق شبكة الـWIFI في المكاتب ومن ثم الأجهزة حتى على بعد ثمانية أميال.
المريع في الأمر أن معظم ما جرى كان تحت غطاء قانوني في تلك الدول، وعندما كان القانون يحول دون تصرّف معيّن، كان الحلّ دائماً في تعديل التشريعات. وبالتالي لم تترك هذه الوسائل للعقل مجالاً للكفّ عن الشكّ في ما يمكن أن يحدث في المستقبل. من الممكن في السنوات القادمة أن يصبح كلّ منا جاسوساً على عائلته! يتحقّق ذلك ببساطة فقط عندما تختار وكالة الأمن القومي الأميركية أن تطلب من «غوغل» أن تضيف إلى نظاراتها الجديدة «غوغل غلاس»، أو حتى إلى هواتفها القادمة، ميزة تخوّلها تسجيل كل ما يحيط بالإنسان تلقائياً وبسرية، والتعرّف إلى الوجوه من حوله، ومن ثم عند تطابق وجه معيّن مع هدف لها تنقضّ على منزله وتقبض عليه، أو أنها فقط ترسل له طائرة بدون طيار تنهي المنزل بمن فيه.
وقد يحدث الأمر نفسه عبر لعبة «Xbox» من «مايكروسوفت»، المزوّدة بتقنيات التعرّف إلى وجه الشخص وحركاته، فيكون هناك على المقلب الآخر من العالم من يعيش معه في غرفة جلوسه، وهذا ليس غريباً، فـ«مايكروسوفت» تمكّن الوكالات حالياً من التجسس على برنامج «Skype».
كل هذا يكرّس المسلّمة المقلقة الآتية: «لم تعد أنت من يحدّد خصوصيتك أو سرّيتك». والسؤال الأبرز هنا: «كيف يحمي الإنسان نفسه، وهو الواقع بين نارين: ضرورة استخدام الوسائل في حياته اليومية، ومغبّة التعقب المستمر له؟ قد يقنع نفسه برأي إيريك شميت، رئيس مجلس إدارة «غوغل»، الذي قال: «إن كان لديك شيء تخفيه عن الجميع، فربما لم يكن ينبغي بك أن تفعله»، أو يعتمد على شركات مثل «Lavabit» التي عندما طُلب منها أن تعطي مفتاح الشيفرة للتجسس على بريد «إدوارد سنودن»، مفجّر فضيحة التجسس، أرسلته مطبوعاً على 11 صحفة بخط غير مقروء (حجم 4)، ولما عجز موظفو الوكالة عن نقله يدوياً وطلبوه إلكترونياً، أخذ رئيس الشركة قراراً بوقفها عن العمل، «مضحياً» بالمال من أجل خصوصية زبائنه. وأمام ندرة ذلك النوع، هل أنه لا مكان للأسرار في عالم اليوم الذي توقعه «أورويل» في روايته: «إذا أردت إخفاء سرّ فينبغي أن تخفيه عن نفسك أولاً»؟
* باحث في الخصوصية الرقميّة يُعدّ لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة البوليتكنيك الفدرالية في لوزان