في عصر أصبحت فيه حرية التعبير الإلكتروني مستهدفة، لجأ الناشطون والإعلاميون إلى وسائل التخفي الإلكتروني، كاستخدام الأسماء الوهمية أو التقنيات التي تخفي أثر المستخدم وموقعه (مثل Tor وVPN). لكن الغالبية الساحقة منهم تغفل عن أمر مهم، أنه لا يكفي أن يخفي الإنسان أثره أو موقعه، ويكتب بعد ذلك ما أراد؛ لأن أسلوب كتابته أيضاً بات بصمة إلكترونية تعرّف عن صاحبها.
بدءاً من عدد الحروف في الكلمة إلى عدد الكلمات في الجملة إلى الصيغ المستخدمة والربط بين الجمل وكيفية تنسيق الفقرات والنقاط والفواصل، كلها يمكن تحليلها إلكترونياً عبر ما يعرف بتقنية الـ Stylometry، أو ما يمكن ترجمته بـ«القياس الأسلوبي» أو «الأسلوبية الإحصائية».
يروي بعض الصحافيين الذين تواصلوا مع «إدوارد سنودن»، مفجّر فضيحة التجسس الأميركية، في الفترة التي كان فيها يخفي اسمه، أنه كان يطلب منهم ألّا يقتبسوا جملاً طويلة من مراسلاته، خوفاً من أن تكشفه وكالة الأمن القومي عبر تحليل تلك الجمل ومقارنتها بكتابات موظفيها. فبحسب الباحثين من شركة IBM، إن ٦٥٠٠ كلمة تكفي لتكوين البصمة الأسلوبية للشخص، وبعدها يمكن التعرّف إلى أي نص يكتبه، ولو تحت اسم آخر! وقد استطاع آخرون من جامعة Drexel الأميركية في عام 2012 تحديد هويات ثمانين بالمئة من الأشخاص في منتديات متعددة على الإنترنت عبر مقارنة ما يكتبونه بأسمائهم الوهمية مع ما يكتبونه بأسمائهم الحقيقية على مدوّناتهم أو وسائل التواصل الاجتماعي.
من أهم ما كشفته هذه التقنية أيضاً، أنّ كاتبة سلسلة هاري بوتر الشهيرة Joanne K. Rowling، ألفت قصة تحت اسم وهمي هو Robert Galbraith، محاولة منها لاختبار ردّ فعل الناس على قصة لها باسم غير معروف. وقد وصل الأمر إلى أن أصبحت المحاكم البريطانية والأميركية تعترف بها كدليل لمعرفة صاحب نص معيّن كرسالة تهديد أو بيان انتحار. وبات هناك أبحاث عن إمكانية استخدامها للمساعدة في كشف الكذب في إفادات الشهود، وهو ما توصّل باحثون من جامعة Essex البريطانية إلى تشخيصه بدقة 75%.

استخدامات مستقبلية

أمام الطفرة الحالية في وسائل التواصل الاجتماعي، لا يمكن إغفال الإمكانات التي تتيحها هذه التقنية في ذلك المجال. إذ يمكن مثلاً أن نرى شركة «فايسبوك» تضيف هذه التقنية كوسيلة لمعرفة الأشخاص الأكثر تأثيراً، أي الذين ينسخ الآخرون كتاباتهم أو يتقمّصون أسلوبهم، وبالإمكان أيضاً الوصول إلى الأشخاص الأكثر تميّزاً في ما يقدّمونه، وكل هذا قد يستخدم في تعويم هؤلاء وتحجيم ظهور الآخرين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى غوغل، التي قد تستخدم فرادة الأسلوب كوسيلة لترتيب نتائج البحث.

تقنيات مضادة

من جهة أخرى، فإنّ من غير الخفي أن مثل هذه التقنية هي من أهم الأسلحة التي تستخدمها وكالات الاستخبارات في التعرّف إلى من تشتبه فيهم، حتى ولو أخفوا هويّاتهم، ولذلك عمل الباحثون على تقنيات مضادة تحول دون ذلك. من أهم تلك التقنيات برنامج Anonymouth الذي يحاول إخفاء بصمة الشخص الأسلوبية عبر استبدال ما أمكن من الكلمات والصيغ وتبديل مواقع علامات الترقيم. وسائل أخرى لذلك تتضمّن تحويل النص تلقائياً ليماثل أسلوب كاتب آخر، عبر استبدال الصيغ بما يكثر لدى ذلك الكاتب. كذلك إن ترجمة النص إلى لغة أجنبية عبر الكومبيوتر ثم إعادته إلى لغته الأصلية تؤدي إلى تغييره بشكل لا يُعبّر أسلوبه عن صاحبه الأساسي.

Stylometry بالعربية

لا تقتصر هذه التقنية على لغة معيّنة، فللغة العربية حصتها من التحليل. ومن أبرز التطبيقات التي عمل عليها الباحثون، ما يتعلّق بالنص القرآني وبالأحاديث النبوية. من أهم النتائج في ذلك المضمار ما توصّل إليه «بهنام صادقي» من جامعة Stanford، وهو أن تحليل البصمة الأسلوبية دون الرجوع إلى نصوص تاريخية يظهر أن هناك مؤلّفاً واحداً للقرآن. وكذلك ما بيّنه الباحث الجزائري «حليم سعيود»، أن تلك التقنية تظهر أن القرآن والأحاديث هي من مؤلّفَيْن بأسلوبين مختلفين. بالطبع، لا تخفى على القارئ الانعكاسات الفلسفية والدينية لمثل هذه الأبحاث، التي لم تأخذ حقها من النقاش، فهل يمكن البصمة الأسلوبية حل خلافات في هذه المجالات مضى عليها قرون من الزمن؟ وما هي المعايير التي يمكن أن يقبل بها المختلفون؟ كلها أسئلة بحاجة إلى تعمّق فعلي، فالإمكانات كبيرة في هذا المجال، وبالإمكان التنبؤ مثلاً بأبحاث تحاول التفريق بين الأحاديث النبوية الموضوعة والأحاديث الصحيحة عبر تحليل أساليب كل منها ونسبها إلى واضعها أو إلى النبي محمد (مع نسبة معيّنة من الخطأ المحتمل). وهو يماثل إلى حد بعيد الجهد اليدوي الذي يقوم به من عُرِفوا بـ«علماء الرجال». أبحاث كهذه لم تعد بعيدة المنال، ففي الجامعة الأميركية في بيروت مثلاً، تمكّن باحثون من استخراج أكثر من 90% من رواة الأحاديث من كتب بدقة عالية.

بين التخفي والإثبات

بالخلاصة، تطوّرت تقنيات البصمة الأسلوبية من كونها حصراً وسيلة للبحث عن كاتب لنص تاريخي، إلى أن تفرّعت لوسائل تساعد على إخفاء ذلك الكاتب. لكن، كما في لعبة القط والفأر، يعمل الباحثون حالياً على كشف الكاتب بعد محاولته تغيير نصه أوتوماتيكياً، وهو بالطبع أصعب بكثير من اكتشافه من نصه الأصلي. على أن في هذه التقنية الوافدة حديثاً نسبياً على اللغة العربية إشكاليات جمة لم تُشبع بحثاً بعد، وليس هنالك من وسائل يُعتدّ بها لإخفاء الأسلوب كما في لغات أخرى، وهو ما يفتح المجال الواسع لبدء مشاريع كهذه تساعد الناشطين على تفادي سلطة الرقيب.