ينظر الكثيرون إلى وسائل التواصل الاجتماعي على أنها ساحة لإضفاء المثالية على الواقع. فالوقت الفاصل بين تلقي المعلومة أو حصول الحدث ومن ثم التفاعل معهما يتيح للشخص أن يبقي على وجهه الجميل على الشبكة إن أراد، وهو ما يحاول فعله مع كل كلمة أو صورة يعرضها هناك. وإحدى ركائز هذه المثالية هي القيم التي بُنيت عليها شبكات مثل «فايسبوك»، مثل المشاركة مع الآخرين، والثقة الزائدة بهم، عبر ائتمانهم على اليوميات الشخصية والآراء والصور الخاصة وحتى الأسرار أحياناً. لكن مرور الوقت أثبت أن تلك المثالية والقيم التي حاولت تلك الوسائل فرضها ضمنياً، فيها من الهشاشة ما فيها، وسرعان ما ظهرت حقيقة الواقع، الذي فيه الشك بنوايا الناس والاحتراز قبل التعبير، وفيه النميمة والشائعات واختيار محدّد لمن نلتقيهم. وكما في كل فرصة للاستثمار المادي، نشأت وسائل جديدة تعبّر عن تلك الواقعية الفجّة بالتحديد، إذ لم يعد الفايسبوك أو غيره كافياً، وقد ساهمت في انتشار هذه الوسائل موجة الاهتمام بالخصوصية الشخصية التي أثيرت في السنوات القليلة الماضية.
الثقة العابرة

إحدى أهمّ التقنيات التي تتّجه إليها الوسائل الجديدة هي«الرسائل العابرة» (Ephemeral Messaging)، عبر البرامج الهاتفية (Snapchat, Confide, Blink…) التي تزول فيها الرسالة أو الصورة بعد أن يراها المتلقي بفترة قصيرة. وهو ما يعبّر عن قبول المستخدمين بواقع قلة الثقة بينهم، أو الشك في من يمكن أن تصل إليه الرسالة. والدليل على اتساع تلك الموجة أن برنامجاً مثل Snapchat (للصور والفيديوات) يزيد مجموع رسائله على 400 مليون يومياً، وقد رفض أصحابه عرضاً من فايسبوك لشرائه بـ3 مليارات دولار. والشركات في محاولة دائمة لتمتين هذا الاعتقاد بالثقة المفقودة عبر إضافة خصائص جديدة كتنبيه المرسل عندما يحاول المتلقي التقاط الشاشة لحفظ الصورة.

بثّ الأسرار

سلبية أخرى بدأت تنتقل من الواقع لتترسّخ في شبكات التواصل هي إفشاء الأسرار من دون معرفة مصدرها. يستغلّ برنامج Secret هذه النزعة فيعطي المستخدم فرصة للتحدث مع لائحة معارفه على الهاتف من دون أن يذكر اسمه. الانتشار الهائل لهذا البرنامج بين موظفّي الشركات التكنولوجية الكبرى أربك هذه الشركات، إذ بات مجالاً لتسريب المعلومات عن الخطط الجديدة للشركات، لم تكن لتطفو على العلن لو لم يكن المسرّب واثقاً بأنه لن يُكشف.

الفضول مع الكذب

يأخذ برنامج Whisper خصائص إفشاء الأسرار أو التحدّث بحرية عن مشاكل شخصية وينقلها إلى خارج معارف الشخص المقرّبين، أي إلى الغرباء. وهذا ما يلبّي فضول البعض لمعرفة مشاكل عموم الناس. لكنه في الوقت نفسه بات منصة لتدمير سمعة البعض، عبر بثّ الأخبار الكاذبة التي لا يُعرف مطلقها. فغموض المصدر هو أساس بنية تلك الشبكات، وبما أن حسن استخدامها متروك للطبيعة البشرية، فقد بات ضررها على البعض موازياً لما يحصلون عليه منها من إرضاء لفضولهم.

تجنب الآخرين

حقيقة أخرى تلقّفتها الشركات أن معظم الناس لديهم بعض الأصدقاء الذين لا يودّون رؤيتهم، ويفضّلون تجنّبهم إن استطاعوا. برنامج Cloak مثلاً يجيب على هذه الحاجة، فهو يمكّن الشخص من معرفة الأصدقاء الذين في نطاق وجوده فعلياً، باستنتاج ذلك من أماكن دخولهم على Foursquare ورفعهم للصور على Instagram، ومن ثم يستطيع الشخص وضع تنبيه كلما وجد هؤلاء على مسافة قريبة منه. بالطبع، قد لا يملك برنامج كهذا الدقة الكافية، خصوصاً في الحالات التي لا يستخدم فيها أولئك الأصدقاء تلك البرامج. لكنه يفتح الباب أمام محاولات أخرى لتلبية هذه الحاجة.




بالإمكان تصوّر برنامج آخر يعطي فيه الشخص أماكن وجوده لمعارفه طوعاً عبر الـGPS في حال أعطوه هم أيضاً أماكنهم، وبالتالي يستطيع الطرفان تجنّب بعضهما إن أرادوا، مستغلّين المصلحة المشتركة.
بالطبع ليس هذا حلاً كافياً عندما يكون النفور صادراً من طرف واحد، والحل في تلك الحالة يحتاج عمقاً أكثر.

انقلاب قيم التواصل

إحدى ركائز وسائل التواصل الاجتماعي التقليدية هي صناعة الصورة للشخص، وبالتالي يرتبط الناس بصاحب تلك الصورة، ويخبو اهتمامهم بالمحتوى. ولذلك من الممكن أن تكون بعض هذه الوسائل الجديدة، التي فيها الأولوية للمحتوى، حلّاً لسطحية سائدة على فايسبوك مثلاً. لكن لا يُمكن النظر إليها كبديل فعلي للوسائل التقليدية، التي تكمن قوتها في أنها تربط مئات الملايين من الأشخاص حول هدف أساس هو التشارك والتعبير عن النفس ومن الصعب الإطاحة بذلك. وبالتالي، وجدت الوسائل البديلة فرصة في تلبية حاجات اجتماعية جديدة تُخرجها من اللعب في الحديقة الخلفية للكبار إلى مجاراتهم. وهي تعبّر عن موازنة الإنسان بين نزعات كالفضول والثرثرة من جهة، وبين حاجته للتعبير عن نفسه بحرية كاملة من جهة أخرى.
والميزان قد يميل إلى إحدى الناحيتين، والعواقب والمكاسب تقاس بذلك. على أن دينامية عالم التكنولوجيا تخبرنا بأن هذه الوسائل الجديدة ليست حلّاً دائماً لتلك الحاجات، فأمام إمكان اختراقها أو كشف بعض هويات الأشخاص عبر أسلوبهم، يكمن الخطر الأكبر الذي تغذّيه الثقة الزائدة في التكنولوجيا نفسها عوضاً عن الأشخاص.