لا تزال شركة «فايسبوك» تحاول الحدّ من انتشار الأخبار الزائفة. مرة عبر تعديل خوارزمياتها، المسؤولة عن المحتوى الذي يظهر أمام كلّ مستخدِم. ومرة عبر وضع إشارة تحذير على الأخبار غير الدقيقة، وغيرها من الطرق التي تعمل من خلالها لحفظ ماء الوجه. ذلك بعدما عرفت هذه المنصة، في الفترات الماضية، تفشياً غير مسبوق للأخبار الكاذبة، ضمن ما وصفه بعض الخبراء الصحيين بالـ«وباء الموازي»، كونه أسفر عن مئات المصابين والقتلى حول العالم.
غير أنّ هذه المحاولات لم تمنع وصول أكثر من 3.8 مليارات متصفّح إلى الأخبار الكاذبة أو غير الدقيقة خلال السنة الماضية. وتزامنت ذروة الدخول إلى مثل هذه الأخبار مع ذروة تفشي وباء «كورونا» وفرض الإغلاق العام، في نيسان من العام الماضي. ففي هذا الشهر وحده، بلغ عدد المتابعين لمثل هذه الأخبار 460 مليون شخص، بحسب إحصاء للمنظمة العالمية «آفاز»، المعنية بحقوق الانسان وحرية التعبير والفساد والفقر والصراع في العالم.

فحصدت، بالتالي، المواقع التي تحتوي على معلومات غير دقيقة وغير مرخصة، عدد مشاهدين أكثر بأربع مرات من مواقع صحية مرخصة كمنظمة الصحة العالمية ومركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها مثلاً.

وفي ما يلي، أكثر الأخبار الكاذبة التي حصدت أعلى نسب قراءة أو مشاهدة خلال الأشهر الماضية:
- حصدت المقالات التي تزعم أنّ برنامج التطعيم ضد شلل الأطفال، المدعوم من بيل غيتس، تسبب في إصابة نصف مليون طفل بالشلل في الهند، نحو 8.4 ملايين قراءة.

- أمّا تلك التي تحتوي على قصص كاذبة عن حالات شفاء من وباء «كورونا»، فحصدت 4.5 ملايين قراءة.
- و13.4 مليون قراءة كانت من نصيب المقالات التي تربط بين شبكة الجيل الخامس (5G) والمشاكل الصحية في العالم.

- كما تم تسجيل 2.4 مليون قراءة على المقالات التي تنشر معلومات مضللة عن مدى فعالية الإغلاق، بحسب المنظمة.

واللافت في الأمر، أنّ المنظمة قدّرت عدد الصفحات التي تنتشر عليها أعلى نسبة من الأخبار الكاذبة بنحو 42 صفحة فقط، يتابعها نحو 28 مليون شخص، تمكّنت من خداع «فايسبوك» للترويج لمنشوراتها على نطاق واسع جداً. أمّا المثير للاستغراب، فهو أنّ مثل هذه الصفحات لا تزال موجودة منذ سنوات، وتروّج للمعلومات إمّا في صفحات مفتوحة أو مجموعات مغلقة، من دون أي حسيب أو رقيب. ودفع ذلك بالمنظمة إلى التشكيك بمدى قدرة، أو حتى جدّية، «فايسبوك» في مكافحة مثل هذه الأخبار.

وخلال فترة كبيرة من صيف 2020، وفي ذروة الاحتجاجات المناهضة للعنصرية ووسط طفرة في حالات وباء «كورونا»، تظهر بيانات «آفاز» أنّ أهم 100 صفحة مروّجة للأخبار الكاذبة، تلقّت أكثر بملايين التفاعلات من أهم 100 صفحة تابعة لوسائل الإعلام التقليدية في الولايات المتحدة مجتمعة. الجدير ذكره أنّ تداول الأخبار الكاذبة غير محصور بـ«فايسبوك» فقط، إنما الإحصاءات تشير إلى أنّ أعلى نسبة منها يتمّ تداولها على هذا الموقع، أكثر من «تويتر» أو «غوغل» أو أي موقع آخر.

مقابل كلّ معلومة كاذبة، يفقد 800 شخص حياتهم!
في دراسة نشرتها «المجلة الأميركية للطب المداري والنظافة الصحية»، يظهر أنّ الخطر الذي تسبّبه مثل هذه المعلومات قد يكون قاتلاً. على سبيل المثال، انتشرت، في مختلف أنحاء العالم، شائعة مفادها أن تناول الكحول المركّز قادر على تطهير الجسم وقتل فيروس «كورونا». على إثره، توفي ما يقرب من 800 شخص، وأُدخل 5 آلاف و876 شخصاً المستشفى، كما أصيب 60 شخصاً بالعمى الكامل، بحسب إحصاءات الدراسة، بعدما شربوا الـ«ميثانول» كعلاج.

كذلك، ونتيجة لشائعات مماثلة، ساهم «فايسبوك» وغيره من مواقع التواصل في انتشارها، قضى نحو 30 شخصاً في تركيا. أمّا في الهند، وبعد مشاهدة فيديو ينصح بتناول بذور نبتة «داتورا» السامة، أصيب 12 شخصاً بالمرض الشديد، بينهم خمسة أطفال. في سياق متّصل، تتطرّق الدراسة الى أعمال العنف والقتل العنصرية التي حفزتها هذه الأخبار ولا سيما تجاه الأشخاص ذوي الأصول الآسيوية.

وفي هذا الإطار، نشرت الـ«بي بي سي»، مقالاً بعنوان «الخسائر البشرية للأخبار الكاذبة»، عرضت فيه بعض التجارب الحيّة لأشخاص أودت الأخبار الكاذبة، أو كادت أن تودي، بحياتهم. على سبيل المثال، يقول الدّكتور دنكان مارو، من أحد مستشفيات نيويورك، إنّ زملاءه عالجوا عدداً كبيراً من المرضى الذين تضرروا بشكل حاد بعد تناول المطهرات. ويضيف: «قد يكون لهذه المواد عواقب تظهر على المدى البعيد، مثل السرطانات والنزف المعوي».
وبعض الحالات بلغت من الغرابة حدّ اتصال أحد المواطنين بمسؤولين في ولاية كانساس للتبليغ عن تناول أحد أصدقائه للصابون المُطهّر، بعد تصريحات الرئيس السابق دونالد ترامب، المثيرة للجدل وغير الدقيقة حول علاجات غير علمية.

وقد أظهر تقرير صدر في شهر آذار، أنّ فايسبوك تأخر جداً في مكافحة الأخبار الكاذبة حول الانتخابات الأميركية الأخيرة، ما أسفر بدوره عن سقوط عدد من الضحايا والجرحى في الفترة الأخيرة. فيؤكد التقرير أنه في حال لم تنتظر الشركة حتى شهر تشرين الأوّل لتحفّز خوارزمياتها على إيقاف انتشار الأخبار الكاذبة، كانت ستمنع نحو 10.1 مليار متصفح من الولوج إلى 100 صفحة صُنفت أنها الأكثر نشراً لمثل هذه الأخبار قبيل الانتخابات.

واللافت في الأمر أنّ هذه ليست المرة الأولى التي تساهم فيها الأخبار الكاذبة، في خضمّ وباء صحي، في أضرار بشرية كبيرة. فخلال الأيام الأولى من تفشي فيروس «نقص المناعة البشرية» (HIV)، أدى انتشار الأخبار غير العلمية بأن هذا الفيروس غير موجود أصلاً وأنّ علاجه سامٌّ للبشر إلى رفض الناس تلقي العلاج المناسب له، ما أسفر عن ارتفاع كبير في عدد الضحايا. وبحسب دراسات سابقة، ارتبطت نظريات المؤامرة بفيروسات أخرى تاريخياً، منها فيروس «زيكا»، بما في ذلك أنّه كان سلاحاً بيولوجياً، وفق ما كان يتداول على وسائل التواصل الاجتماعي بين عامي 2014 و2015.

هل فقد «فايسبوك» فعلاً سيطرته على الأخبار الزائفة؟
في منتصف شهر آذار، أعلنت شركة «فايسبوك» أنها أغلقت 1.3 مليون حساب مزيف في الفترة الممتدة بين تشرين الأول حتى كانون الأول، وأنّ لديها أكثر من 35 ألف شخص يعملون على التصدي للمعلومات المضللة على منصتها الاجتماعية. كذلك، قالت الشركة إنها أزالت أكثر من 12 مليون منشور حول «كورونا» واللقاحات المضادة له، بعدما أوضح خبراء الصحة أنها غير صحيحة. وفي عام 2020، أكّد المدير التنفيذي للشركة، مارك زوكربيرغ، أنه يتم «تخفيض رتبة» المنشورات التي تحتوي على معلومات كاذبة والحد بنسبة 80% من انتشارها.

إلا أنّ «آفاز» استنتجت أنّ الكثير من هذه المعلومات المضللة لا يزال يفلت من قبضة «فايسبوك». فخلال صيف 2020، أجرت المنظمة تحليلاً شمل نحو ألفي خبر كاذب، ليتضح أنّ أقل من خبر واحد بين كلّ خمسة وُضع عليه إشارة تحذير، بينما 84% منها كانت تستمرّ بالانتشار بعد ترجمتها إلى لغات أخرى أو إعادة نشرها مجدداً أو نشر مجرد جزء صغير منها.

وفي تقرير نُشر على المجلة العلمية «إم آي تي تكنولوجي ريفيو»، تواصلت كاتبة المقال، كارين هاو، مع مدير «التعلم الآلي التطبيقي» في شركة «فايسبوك»، جواكين كينونيرو كانديلا. أو بمعنى آخر، تواصلت مع الرجل الذي أدخل أولى الخوارزميات المولجة تحديد المحتوى الذي يظهر لكل شخص وفق اهتماماته، وتحديد المنشورات التي يجب أن تظهر تنتشر بشكل كبير وتلك التي يجب أن يقلّ ظهورها بحسب كمّية التفاعل التي تتلقاها، وقد أوكلت إليه، حالياً، من بعد انتشار هذه الخوارزميات بشكل كبير في الشركة وما سببته من تفشٍّ للأخبار الكاذبة والمضللة والعنصرية، مَهمّة جعلها أقلّ ضرراً. كما تواصلت مع مسؤول آخر في هذا المجال، آري إنتن، لتفهم سبب عدم نجاح محاولات «فايسبوك» في السيطرة على عمل هذه الخوارزميات.

وسرعان ما اتضح للصحافية أنّ المسؤولين غير مستعدين للتطرّق بشفافية إلى هذا الموضوع. وبعد محاولات عدة وأسئلة كثيرة، توصلت إلى خلاصة مفادها أنّ ما تفعله الشركة أو ما تختار عدم القيام به، ينبع من دافع واحد: «رغبة زوكربيرغ المتواصلة في النمو». والغريب في الأمر أنّ قيادة الشركة كانت، في كثير من الأحيان، تساهم في إضعاف العديد من المبادرات الهادفة إلى «تنظيف» المنصة من الأخبار الكاذبة أو إيقاف هذه المبادرات حتى، لأنّ من شأن ذلك أن يقوّض هذا النمو.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا