رحل الأستاذ سامي عبد الحميد (1928-2019). يا لخسارة المسرح في العراق، بل والنخبة العراقية بشكل عام. ذلك أن هذا الرجل لا يعوّض في اختصاصات شتى، وإن اتّصلت كلها بالمسرح. وقبل أن أغادر هذه النقطة، عليّ القول إن المحظوظين فقط هم من تتلمذوا على يد الأستاذ سامي في قسم الفنون المسرحية في كلية الفنون الجميلة، في بغداد. مرّة سألني صديق إعلامي: لماذا تقولون الأستاذ قبل اسم سامي عبد الحميد فيما لا تقولون مثل ذلك عن غيره. سؤال وجيه لم نفكّر به، مع احترامنا الكامل لأساتذتنا كلهم، لكننا نقول الأستاذ سامي لأنه أستاذ الجميع. والأستذة هنا لا تخصّ علوّ كعبه، وقدم تاريخه في تدريس فنون المسرح فقط، بل ومن خلال تعامله مع المسرح العراقي في مختلف المستويات. فهو الوحيد الذي مارس الأدوار كلها. مؤلف ومعدّ ومترجم وناقد. وهو ممثل ومخرج وصانع سينوغرافيا. وهو معلّم ومُربٍّ. علاقته مع خشبة المسرح أهّلته لكي يكون مرجعاً في التخصّص. كان يقصده الجميع من أجل المشورة، وغالباً ما كنت تجد عنده أجوبة. ينفعل مثل طفل إذا ما تعلّق الأمر بمسألة تخصّ البديهيات، بالنسبة له، في المسرح. ثم تراه في أحيان أخرى مصغياً كأنه تلميذ مجيد في حضرة كلام أكاديمي أو رأي نقدي.
تتعدى خسارتنا برحيل الأستاذ خسارة ممثل، أو مخرج مسرحي، كما أنها تتعدى خسارة مترجم أو مدرّس.. إنها بالحقيقة الخسارة الشاملة. أستطيع القول، بأريحية عالية، إن فقدَ الأستاذ يشابه انهيار أكاديمية كاملة للفنون المسرحية. من خلال الأستاذ سامي تتعرّف إلى جدال مستمر يخصّ مختلف مفاصل العمل المسرحي. قد يكون هذا الجدال بعيداً جداً عن أغلب المتابعين، أولئك الذين يعرفونه من خلال أدواره التلفزيونية القليلة، «أبو عطية» مثلاً، في «الذئب وعيون المدينة». إلا أن أهل الحرفة لا يستطيعون تجاوزه. فهو عميد المسرح الأكاديمي، مثلما هو عميد المسرح الشعبي، وما بينهما هو «شيخ المجربين» بلغة الدكتور صلاح القصب.
وبسبب ذلك كله، فإن الكثير من الخلافات تنشب عنه وبسببه. كان يدقّق، مثلاً، بشكل كبير وملحّ في قضية «المصطلح». لم يكن يقبل، أبداً، بفوضى المصطلحات التي شاعت في صحافتنا الثقافية منذ الثمانينيات وإلى اليوم. ومع ذلك، فهو مع «الجديد» بقوة. حتى المصطلح، هو مع جديده أيضاً. كان يذهب إلى أحدث قواميس المسرح ليقرأ بنفسه ماذا يعني المصطلح الفلاني، متى يستخدم، ولماذا. غنيّ عن القول بأنه يقرأ باللّغة الإنكليزية. ثم يعود في اليوم التالي ليعلن بصوته الجهوري المسرحي الأخّاذ، أن المصطلح المعيّن يعني كذا، حسب قاموس كذا!
لا تروق هذه العلميّة، أو قل الصّرامة العلميّة، لـ «فرافير» المسرح. هؤلاء طبعاً لا يروق لهم نقد الأستاذ لأعمالهم المسرحية «التجريبية». فهم يرون فيه «التجربة القديمة»، وهم التجربة الأحدث. ألا بؤس ما فكّروا!
لم يخف الأستاذ سامي يوماً عثراته في الإخراج المسرحي، واضطراره في بعض الأحيان لتقديم عمل ضدّ قناعاته الفنية. إنه مثلنا أيضاً إنسان خطّاء، لكنه أشجع من كثيرين، إذ يعترف بأخطائه، كما ترد في أكثر من موضوع في الكتب التي وضع فيها شيئاً من سيرته الذاتية، مثل: «أضواء على الحياة المسرحية في العراق» (آراء نقدية وتحليلية للظواهر والمؤسسات والنتاجات المسرحية خلال القرن العشرين).
كما أن الأستاذ صريح لجهة إشهار تأثره بالأستاذ الراحل ابراهيم جلال، وكان أستاذه، وتفضيل تجربته على تجربة الأستاذ حقي الشبلي، على ما في تجربة هذا الآخر من حداثة، آنذاك. هذا التأثر، انتقل إلى مخرج آخر كان يعدّه الأستاذ سامي، رمزاً لا يتكرّر من رموز المسرح في العراق، وهو الراحل قاسم محمد. أقول ذلك كلّه لكي أشير إلى نقطة جوهرية في تجربة الأستاذ سامي، هي قدرته الذهنية المتجددة على التلاقح مع تجارب سابقة أو لاحقة. نستطيع هنا استعادة مسرحيات قدّمها مع أساتذته أو مجايليله، وأخرى مع تلامذته أو تلاميذ تلامذته.
كيف يمكن، إذن، لمثل هذه العقلية «التجريبية» حقاً أن توصم بالقدم؟ إنه المشهد المسرحي العراقي الخالي من التقاليد، للأسف الشديد. هذا المسرح الذي لا يفرّق بين منفّذ ديكور ومصمّم ديكور، فكيف تريده أن يفرّق بين ما يمكن عدّه أباً للمسرح في العراق، وبين ما يمكن عدّه لطخة عابرة في يافطة عريضة؟
هو عميد المسرح الأكاديمي، مثلما هو عميد المسرح الشعبي، وما بينهما هو «شيخ المجربين»


من الممكن أن توصم تجربة الأستاذ سامي بأنها ذاكرة المسرح العراقي بالفعل لجهة تنوعها. لقد تعامل، مخرجاً مع العشرات من النصوص الأجنبية، من مختلف الاتجاهات واللغات، والعشرات من النصوص العربية والعراقية لمؤلفين أحياء وموتى، مشهورين ومغمورين. كانت تلك التجارب الإخراجية نفسها متنوعة حد الاختلاف والتضاد. لقد عمل في المسرح مخرجاً من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. نهل من التراث، في الوقت نفسه الذي نهل فيه من الواقع. قدم مسرح الأقنعة، والمسرح الكلاسيكي الفخم، المسرح الشعبي، الملحمي، كما أخرج عشرات الأعمال التجريبية ابتداءً من «هملت عربياً» عام 1974. يقول الناقد عواد علي عن هذا العرض: «كانت رؤية المخرج تقوم على إيجاد خصوصية للمسرح العربي، فافترض وقوع أحداث المسرحية في منطقة ما على ساحل الخليج العربي، ووضع للعرض إطاراً عربياً من خلال سلوك الشخصيات والسينوغرافيا (الخيام والبسط والسجاجيد والأفرشة العربية). وبناءً على ذلك حذف من النص كل ما يحيل إلى المجتمع الدنماركي، مثل المقاطع الحوارية، وأسماء الشخصيات، وأبقى على الألقاب فقط، كالملك والأمير والوزير وما إلى ذلك. واستثمر المخرج بعض أغاني البحر الخليجية التي تختلط بها الآهات والحشرجات مع إيقاع الطبول والأواني الخزفية والنحاسية».
وفي مجال التمثيل المسرحي أيضاً، تنوّعت أدوار الأستاذ ما بين مختلف الاتجاهات، على أن حضوره ممثلاً لشخصية «المتنبي» (تأليف عادل كاظم وإخراج الفنان الراحل ابراهيم جلال وقدمتها الفرقة القومية للتمثيل أواسط السبعينيات)، وشخصية «الملك لير» في المسرحية التي أخرجها الدكتور صلاح القصب أواسط الثمانينيات، يعدّ من أبرز أدواره التي لا تنسى. ولا ينسى أيضاً شغفه وولعه بتقديم الشخصية الوحيدة في مونودراما «أغنية التمّ» لتشيخوف. ولأنه ذاكرة المسرح بالفعل، فلقد كان له حضور طاغ خارج أكاديمية الفنون الجميلة. في «فرقة المسرح الفني الحديث»، وفي «الفرقة القومية للتمثيل»، حيث يعد من مؤسسي كلا الفرقتين.
لقد كان الأستاذ سامي عبد الحميد رمزنا، وغيابه عن المشهد المسرحي العراقي سيظلّ شاخصاً إلى الأبد. كم أنا حزين لهذا الفقد! الوداع أستاذي.

* شاعر عراقي ـــ سيدني