القاهرة | على مدار 15 عاماً، قام المخرج والسيناريست والموظف في وزارة الثقافة المصرية خالد جلال، بتنظيم وإدارة «ورش» أو «فصول تعليمية» لهواة التمثيل تخرج فيها عشرات من الممثلين والممثلات تحول كثيرون منهم إلى نجوم ونجمات على شاشتي التلفزيون والسينما والمسرح. هذه «الورش» تختتم عادة بمشروع تخرّج على شكل عرض مسرحي، عادة ما يتحول أيضاً إلى ظاهرة من ناحية الإقبال الجماهيري والتغطية الإعلامية والجدل الذي يثار حول مضمونه ومستواه... ربما أكثر من معظم المسرحيات الاحترافية التي تعرض يومياً! من العروض التي نالت شهرة واسعة على مدار السنوات العشر الماضية «قهوة سادة»، و«سلم نفسك»، و«هبوط اضراري»، وآخرها «سينما مصر» الذي يُعرض على مسرح «مركز الإبداع» في القاهرة. معظم العروض السابقة - وهي نتاج تأليف جماعي لطلبة الورش - كانت تنتمي لنوعية الهجاء الساخر، لمظاهر وسلوكيات سلبية من حياتنا السياسية والاجتماعية، ونسخها المصورة تعدّ الآن بمثابة وثائق على بدايات هؤلاء الفنانين، وعلى الأفكار والمشاعر السائدة لدى الشباب المشاركين في هذه العروض، والمجتمع المصري بشكل عام خلال العقد الماضي. في عرض «سينما مصر» يتراجع النقد الاجتماعي، الذي بات إدماناً للمصريين، مخلياً المجال لشعور ثانٍ يسيطر عليهم منذ سنين، هو الحنين للماضي الذهبي الجميل، مقارنة بالحاضر البائس القبيح. هذا الحنين ينصب عادة على فترات أو أماكن أو مجالات بعينها: اسكندرية الثلاثينيات، العائلة الملكية قبل 1952، والسينما المصرية ونجومها في عصر الأبيض والأسود. «سينما مصر» تجسيد لحنين يصل لدرجة التعلق الهوسي بهذا «المجد السينمائي الغابر». وبقدر ما ينجح في إثارة مشاعر الزهو والمرح والشجن في قلوب مشاهديه، بقدر ما يطرح أسئلة معلقة حول مدى عظمة الماضي، وأسباب تدنّي الحاضر، والمغزى الحقيقي لهذا الحنين.
قبل أن يبدأ العرض، الذي يشارك فيه 67 طالباً وطالبة ويتجاوز زمنه ثلاث ساعات، يقف الممثلون مديرين ظهورهم للقاعة، ووجوههم نحو شاشة تعرض مقتطفات من فيلم «الليلة الأخيرة» (إخراج كمال الشيخ ـ 1963ـ تمثيل فاتن حمامة، محمود مرسي وأحمد مظهر) تلخص موضوع الفيلم الذي يدور حول امرأة تستيقظ ذات يوم لتجد أنها لا تتذكر شيئاً من حياتها طوال الـ 15 عاماً الماضية، وأنها تعيش في هيئة امرأة أخرى، هي أختها، وأن زوج هذه الأخت أصبح الآن زوجها، ووالد ابنتها الوحيدة!
نادية، التي تستيقظ لتجد نفسها فوزية، تعادل السينما المصرية التي فقدت هويتها وذاكرتها وتحاول استعادتهما رغم مؤامرات الأعادي (بالنسبة لنادية الفيلم الزوج شاكر، بالنسبة لنادية المسرحية أعداء مصر، غير المحددين بالاسم).
فكرة استعادة تاريخ السينما المصرية في عرض للمواهب الجديدة مناسبة جداً، واستخدام فيلم «الليلة الأخيرة» كتكئة لتداعي الحبكة والذكريات أيضاً رائعة، وكثير من المشاهد التي تم اختيارها تثير ضحكات ومشاعر المشاهدين وتصفيقهم الحاد... وقد استطاع خالد جلال بخبرته أن يشيع في خشبة المسرح الصغيرة حالة من الحيوية والتدفق جعلتها تبدو أكبر بكثير مما هي عليه، كما قللت كثيراً من الرتابة الناتجة عن توالي المشاهد غير المترابطة أحياناً، وتتفاوت في مستوى تنفيذها وتمثيلها أحياناً.
يلعب العرض على الذاكرة بطرق شتى: ذاكرة المشاهد «الجمعية» للأفلام الشهيرة التي ارتبط بها منذ طفولته. أفلام مثل «غزل البنات»، «دهب»، «الناصر صلاح الدين»، «جعلوني مجرماً»، «ابن حميدو»، «اسماعيل يس في الأسطول»، «في مستشفى المجانين»، «الشموع السوداء»، «صغيرة على الحب»، «رد قلبي»، «أغنية على الممر»، «شفيقة ومتولي»، «الكيت كات»، «ناصر 56»، «طيور الظلام» على سبيل المثال.
مجرد «مسرحة» بعض مشاهد من هذه الأفلام وتقليد نجومها المحبوبين فكرة مضمونة النجاح ورد الفعل، خاصة إذا قام بها مخرج متمكن ومجموعة من المواهب التمثيلية الواعدة. ونسج هذه المشاهد في إطار حبكة عامة حول استدعاء هذه الذاكرة، والماضي الذهبي للسينما المصرية، يؤطر فكرة الحنين ويعززها، وإضافة خط درامي يجعل من هذه الذاكرة، والماضي المرتبط بها، هدفاً لمؤامرات أجنبية ومحلية، تسعى لتحويل «نادية»، مصر الناهضة، الجميلة، إلى «فوزية»، النائمة، القبيحة، يعطي للعمل سياقاً آنياً يتوافق مع الخطابات الرسمية السائدة. هكذا يتم توظيف النوستالجيا توظيفاً سياسياً مرتبطاً بفكرة «إحياء الماضي» و«الرينسانس» والبعث التي طالما لعب عليها سياسيون، ومستبدون كثر.
عرض عن تأثير الفن السابع ودوره في تشكيل الهوية والثقافة والذوق


«سينما مصر» هو أيضاً عرض عن تأثير السينما ودورها في تشكيل الهوية والثقافة والذوق، هي التي علمتنا كيف نتكلم ونلبس ونحب، كما تقول إحدى الشخصيات. ومن أجمل الأفكار الإخراجية في العرض تفتيت وتشظية المشهد الواحد إلى مجموعة من المشاهد أشبه بالمرايا، حيث يقوم أكثر من ممثل وممثلة بأداء المشهد نفسه في الوقت نفسه أو بالتبادل. فكرة تجسد بصرياً تحول هذه الأفلام والمشاهد والشخصيات إلى جزء من ذاكرة وشخصية كل متفرج.
يحتاج العرض مع ذلك لبعض الاختصار، ومزيد من العناية في اختيار المشاهد المعروضة، لتعزيز الترابط والانسجام بينها... ولكن مفهوم طبعاً أنّه مشروع تخرج، لأكبر دفعة من الممثلين تم تخريجها، سواء في مدرسة خالد جلال أو غيرها من المعاهد الحكومية أو الخاصة. ومفهوم أن كل واحد من هؤلاء الطلبة يحتاج إلى إظهار مهارته في مشهد واحد على الأقل. مفهوم أيضاً أن هؤلاء الطلبة يتفاوتون في الموهبة، وبالتالي يصعب أن تكون كل المشاهد في المستوى نفسه. لكن ما يعطي الأمل في مستقبل السينما، والنهضة المصرية بشكل عام، هو هؤلاء الشباب، الذين يتدفقون حيوية وحماسة ورغبة في إثبات الذات. وطالما أن هذا التدفق مستمر كماً وكيفاً، فلا خوف على مصير السينما المصرية، ولا نهضتها، من نسيان أو مؤامرات.