تونس | يقول محمود درويش في ذاكرة النسيان: «نحن نتاج هذا الواقع وهذا الزمن الذي تختلط فيه الانهيارات الواضحة بالولادات الغامضة، ولا نتوب عن أحلامنا مهما تكرّر انكسارها». تجدد الأمل لدى الانسان والرغبة في المصالحة رغم عوامل الانهيار المتعددة هو ما عكسته مسرحية «ذاكرة». ففي خضم الأزمة الصحية التي ألقت بثقلها على البشرية وفي ظلّ الخوف من شبح موت يحوم حولها منذ سنة تقريباً، يشكّل المسرح متنفّساً يحيي أحلام الشعوب ويخلق مساحة للتحرّر، فاتحاً نوافذ التفكير في قضايا أخرى.استأنف «قطب المسرح والفنون الركحية» لمسرح الأوبرا في تونس أخيراً نشاطه مع تظاهرة «الخروج إلى المسرح». العرض الأول كان من نصيب مسرحية «ذاكرة» لمخرجيها صباح زويتة وسليم الصنهاجي (إنتاج «شركة أرتيس» بالشراكة مع مسرح الأوبرا ودعم وزارة الشؤون الثقافية). شهدت المسرحية حضوراً مقبولاً بين فنانين وصحافيين وغيرهم، وقد راعى الجمهور تطبيق البروتوكول الصحي من تعقيم وارتداء الكمامات وتباعد اجتماعي.
تتمثل قصة المسرحية في استرجاع الشخصية الرئيسية «كنزة» ما تعرّضت له من قهر وظلم على يد طبيبها المغتصب الذي استغلّ الوضع إبان الثورة للإفلات من العقاب، في حين آثر زوج الضحية المحامي المرموق تغليب مصلحته وطموحاته الشخصية على كرامة زوجته. «ذاكرة» صباح بوزويتة وسليم الصنهاجي قدّمت شخصيات مركّبة وجامعة لما يعيشه التونسي، ولما يمكن أن يعيشه الإنسان عامةً من ضياع الحلم بغد أفضل. إذ قدّمت موقفاً من العدالة الانتقالية في تونس التي لم توفّر مصالحة حقيقية ولا رتقاً للنسيج الاجتماعي الممزق بعد أفول النظام الدكتاتوري، إنّما تركت الجلادين في مناصبهم، وربما حصل بعضهم على ترقيات فيما أُجبر الضحايا على موقف «بوس خوك» من دون أن يأخذ كلّ ذي حق حقه. مسرحية «ذاكرة» هي من أداء صباح بوزويتة (صاحبة النص) ورضا بوقديدة وعلاء الدين أيوب. اقُتبس النصّ من مسرحية «العذراء والموت» لأرييل دورفمان. بطلة المسرحية تُدعى باولينا احتفظت ذاكرتها بجراح السجن والتعذيب، بعدما تعرّضت للاغتصاب من قبل البوليس السري قبل 15 عاماً، عندما كانت طالبة في كلية الطب. وقد التقت الضحية صدفة بالجلاد ليتم تبادل الأدوار. تُرجمت هذه المسرحية إلى لغات عدة، وتم اقتباس النص في مسرحيات كثيرة على غرار مسرحية «ذاكرة». عُرضت هذه المسرحية للمرة الأولى في تشيلي في سانتياغو سنة 1991 وهي توثق التعذيب تحت حكم دكتاتورية بينوشه في تشيلي حين بدأت تنكشف قصص المعذبين داخل المعتقلات. تُرجمت إلى العربية سنة 1992 ليتم تقديمها في دمشق على خشبة «مسرح القباني» بأداء الممثلة الراحلة مي سكاف. أُطلق على المسرحية ذاك الاسم لأن عمليات التعذيب كانت تجري على إيقاع رباعية «الموت والعذراء» لفرانز شوبرت. تنطلق «ذاكرة» بدخول شخصيتين تحملان حقائب سفر، ودخول الجمهور من ذاكرة كنزة إلى خشبة المسرح حيث تناثرت الكراسي في إحالة على الخراب والفوضى، وفي قراءة أخرى لغرفة التوقيف والتعذيب والسجن.
النصّ مقتبس من مسرحية «العذراء والموت» لأرييل دورفمان

رغم أن الترميز كان الأسلوب الطاغي، إلا أنّ البطلة تقول بأسلوب مباشر باسم الشعب: «في أرحام الشارع.. وما أدراك ما الشارع.. في صوت برشا أحرار معنقين الشمس.. القمرة، النجوم، الضوء.. نسهى ونفيق وإذا موش أنا.. إنت ما زال عندي الوقت.. نتخمد، نتكمم، وفي منامي صوت مكتوم، هايج مايج يرحى.. يرحى ما يحب يرقد.. قوم.. قوم».
تُتّهم «كنزة» بالجنون حين تطالب بالمحاسبة واسترجاع حقها المسلوب. في المقابل، يكون زوجها صاحب الصيت والجولات بين وسائل الإعلام رئيس لجنة التحقيق، غير أن طموحه يحول دون رغبتها في إخراج كمّ الألم ومحاسبة الجلادين. يأخذها إلى مستشفى الأمراض النفسية حيث تشاء الصدف أن تجتمع الشخصيات الثلاث الضحية والجلاد والحكم (الحقوقي) وتتضارب وجهات النظر. تطلب كنزة شهادة الطبيب على ما يحدث في غرفة التوقيف، فيما يرى هو أنه بطريقته تلك كان يحاول إنقاذ الضحايا حتى لا يتم التنكيل بهم أكثر. أما الزوج فيصرّ على رواية أنه حاول تنبيهها، لكن الجلادين كانوا أسرع في الوصول إليها.
الإيقاع والموسيقى على غرار الضوء تماهت مع حركات الممثلين. ذاك التوتر يأخذ الجمهور للتفكير في صراعات سياسية واجتماعية خلفتها الثورة التي لم تحقّق أهدافها. رغم قتامة ذاكرة ضحايا التعذيب، تتلو البطلة وزوجها فصولاً من الدستور تتعلق بالحريات الفردية وهي أهم مكاسب الثورة وربما الوحيدة.
مسرحية «ذاكرة» كذاكرة ضحايا الاستبداد في تونس تسائل من ترأسوا لجان التحقيق وهيئات مكافحة الفساد والمصالحة الوطنية عن الحقوق الموؤودة وتسائل الجلادين الذين عادوا إلى حياتهم كأن شيئاً لم يكن عما جرى تحت أسقف الزنزانات. وحدها الضحية حملت كل تلك الأنات وذاكرة تطاردها ككلب مسعور وهي عبثاً تحاول النسيان.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا