كان المسرحي المصري توفيق الحكيم (1898ــــ 1987) يردّد بأن الخلق الدرامي، يحاكي خلق العالم. تُستحضر مقولة الحكيم، في سياق البحث حول ما يسمّيه المخرج والكاتب والممثل المسرحي الكويتي سليمان البسام (1972) بـ«العرض المسرحي الحر»، قاصداً عمله الجديد «آي ميديا». في هذا العرض، يُشركنا البسّام بالأزمات، ويحفر في دواخلنا، ويُنزلنا إلى أعماقنا، ليكشف عن الحقائق الأساسية والجوهرية لعالم متلاشٍ، ومهجورٍ، وهشٍّ، في بلورة فنية معاصرة لـ «ميديا»، إحدى أشهر تراجيديات الكاتب المسرحي اليوناني يوربيدس (480 – 406 ق.م). على مدى ثلاث ليالٍ متتالية في 28 و29 و30 كانون الثاني (يناير) الحالي، سيُقدم «آي ميديا» (تمثيل حلا عمران والبسام ـــ وموسيقى عبد قبيسي وعلي حوت)، على خشبة «مسرح المدينة» في بيروت، بعدما حطّ الرحال سابقاً، في قرطاج والقاهرة حيث تُوِّج بجوائز عدة.
في عرضه الحالي، اعتمد البسام على رؤية دراماتورجية تربط أحداث المسرحية اليونانية بالعصر الحديث. يعيد بناء شخصية «ميديا» في عصر الاستبداد القائم على التكنولوجيا، والبنى المتدهورة للحقيقة في عالم رقمي، ليقدم البطلة التراجيدية كمهاجرة عربية مثقّفة، ذات نزعة رافضة لوحشية ما بعد الاستعمار، على خلاف عميق مع العالم المعاصر. في سياق السرد المسرحي، الذي يتخذ أشكالاً مختلفة، تحوّل «ميديا» مشاكلها الشخصية إلى سلسلة من الأغاني الحماسية، لأقلية محاصرة في مدينة «كورنثيا» التي تقع على السواحل، وتلفظ الأجانب بسبب توافد اللاجئين إليها على متن قوارب صغيرة إليها.

سليمان البسام وحلا عمران في العرض

في نظرة تاريخية على «ميديا»، لا تزال بطلة الإغريق، وساحرة يوربيدس، تستقطب المسرحيين الذين يتهافتون لتجسيدها على المسارح العربية والعالمية، وفق رؤية كلاسيكية أحياناً، مبنية على نظرية المحاكاة الأرسطية، أي التطهير والإيهام... أو وفق رؤية بريخت، الذي عارض فكرة الإيهام، عبر إقرانه فعل اللذة والمشاهدة بعملية التغريب، أو في سياق تيار اللامعقول والعبث، وصولاً إلى ما بعد الحداثة أو ما يُعرف اليوم، بالممارسات الفنية المعاصرة... حيث «الحضور الطاغي للموت، والأفكار الوجودية، والروحانيات، والأفكار الدائرية واللانهائية، أو ما يُعرف بالتكرار غير المجدي، الذي يجعل الصراعات الداخلية أشبه بالعدمية»، بحسب ما يذكر المخرج الفرنسي جان كريستوف ساييس (1987).
انطلاقاً من ذلك، يمكن القول بأن ما يميز «آي ميديا»، تطابق رؤيتها الإخراجية وإعدادها، مع الممارسات الفنية المعاصرة والمفاهيم التي تطرحها. فـ «ميديا» في الأسطورة اليونانية غريبة في كورنثيا، و«ميديا» في عرض سليمان البسام هي أيضاً غريبة، هجرها زوجها، ولفظها المجتمع، والأطر السائدة في بلادها، وتم وصمها كمصدر للاعقلانية، والعنف، حيث لا يمكن لها أن تنضم إلى المدينة. يقدم البسام إذاً، صورة مختلفة للهجرة واللجوء، ويقلب منظومة الرأسمالية الغربية، رأساً على عقب. تتعدّى قصة «ميديا» كونها امرأة في واقع محدد، يرمي بها إلى آفاق مفتوحة، بعيداً عن «الركح» المسرحي، ما يصبّ في تحفيز المشاهد للتفكير والتساؤل.


يذكر البسام أن أسطورة ميديا تحمل أوجهاً متعددة. الوجه الأول هو العنف الكوني، الذي يتجسد بالأسئلة الوجودية وحتمية الأقدار على البطل التراجيدي. أما الوجه الثاني، فهو الجانب المادي الذي يتعلق بالمجتمع، والسياسة. لذلك، تجسّد شخصية «ميديا» في عمل البسام، المتناقضات بين الوجود واللاوجود، العقلانية واللاعقلانية، العنف والضحية.
يحاول مخرج «آي ميديا» إبعاد العمل عن المنحى الأسطوري، مع عدم التقليل من شأن النص الأصلي. يرفض سليمان البسام، الاختزالات الفكرية المبسّطة، والمفاهيم الفضفاضة. وتكمن المعاصرة في الأطر الإخراجية، حيث يتقاطع الخطاب الشاعري، مع التأثيرات الموسيقية، والأداء الصوتي. حتى إنَّ طريقة تقديم النص، وإعداد الممثل أتت في طريقة تحثّ المشاهد على التحليل والتفكير، بعيداً عن التلقين والرسائل المباشرة والواضحة، كما ذكرنا سابقاً. «المسرح يجب أن يخلق أرضية من التساؤلات، والعصف الذهني والعاطفي لدى المتلقي» يقول البسام في حديثه لـ «الأخبار». هكذا، لم يتوان عن تفكيك المسارات المعتمدة في المسرحية الأصلية، التي تحتّم تقديس الصورة الأسطورية. فـ «ميديا» الجديدة امرأة ككل النساء اللواتي يهجرن بلادهن، هرباً من الأنظمة القمعية السائدة. لذلك، يدخل العرض في ماهية القضايا الجوهرية، التي تسوق الفرد إلى جملة من التساؤلات الكونية والوجودية. جاء العمل ليجسد الواقع من دون اعتماد مبدأ المحاكاة البسيطة.
رؤية دراماتورجية تربط أحداث المسرحية اليونانية بالعصر الحديث


ينفي العرض فكرة الخلل في حياة البطل التراجيدي. بمعنى أوضح، إنّ الأساطير اليونانية قامت بتصوير الألم الذي لا يطاق، والقسوة التي لا تُحتمل، والعذاب الذي لا ينتهي للشخصية التراجيدية، التي عادة ما تكون من الملوك أو أنصاف الآلهة. لذا، يقع البطل التراجيدي في تخبّطات بين إنسانيته وألوهيته، ما يجعل نهايته مأساويةً نتيجة خلل متعلق بالأقدار الكونية. لكنّ البسام قرر الغوص في كينونة الإنسان وعلاقته بالمجتمع أولاً، والماورائيات ثانياً، على عكس الرؤية الكلاسيكية للشخصية التراجيدية، وتقديمها بطريقة أيقونية فقط. علاوة على ذلك، لا بدَّ من القول إن العرض يحمل تصويراً واضحاً للميثولوجيا العربية القديمة التي اعتادت الحزن والاغتراب الذاتي، ولكن مع الابتعاد عن التماهي الكلي لتحطيم صورة البطل الأسطوري، مع المحافظة على التساؤلات الوجودية.

* «آي ميديا»: 19:00 مساء اليوم و29 و30 كانون الثاني (يناير) ـــــ «مسرح المدينة» (الحمرا ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/753010



هُوية متداخلة بين الشرق والغرب
تعكس أعمال سليمان البسام، هويته المتداخلة بين الشرق والغرب. تبحث كتاباته في مسائل الهوية، ولا سيما بين العالم العربي الإسلامي والغرب. على هذا النحو، فإن العنصر المحدد في عمله هو إعداد وتكييف النصوص الكلاسيكية، إلى الواقع الراهن في الخليج والعالم العربي، ربطاً بمشهد السياسة العالمية الحالية. حتى بات يعرف كصانع مسرح كويتي على مستوى المخرجين العرب الرائدين في العالم. من أبرز أعماله «ريتشارد الثالث» (2007)، و«طقوس الإشارات والتحولات» (2014) للمسرحي السوري سعدالله ونوس، الذي دخل في سجلّ الأعمال الخالدة في المسرح الوطني الفرنسي. تتضمن مشاريعه الأخيرة العمل على «ثلاثية إيكاروس»، التي تعتمد منهجاً جديداً في البحث المسرحي، يغوص من خلالها في النصوص السومرية والإغريقية، التي تتقاطع مع تاريخ المنطقة، وجزيرة فليكا الكويتية. تم تقديم الجزء الأول من الثلاثية هذه، تحت عنوان «أور» (2018)، وهو عمل مستوحى من النص السومري لرثاء دمار مدينة أور، التي تُعد أقدم مراثي المدن في تاريخ البشرية. يعمل الآن على «I MEDEA»، كعمل ثانٍ ضمن الثلاثية ذاتها. كما تتضمن أعماله «في مقام الغليان: أصوات من ربيع مختطف» (2016)، وهي سلسلة مونولوجات أنثوية تستكشف واقع الانتفاضات الشعبية في العالم العربي.
يدير البسام «مسرح سبب» أو SABAB، وهي فرقة مسرحية كويتية تأسّست عام 2002، وتضم مجموعة من الفنانين والممثلين والتقنيين الكويتيين والعرب والأجانب. يعمل من خلال ذلك على إعادة الروح إلى المسرح العربي ودوره المحوري في الثقافة العربية، عبر خلق فضاءات جديدة للمسرح الكويتي والعربي، وردم الهوة بين الشرق والغرب، والاحتفاء الحقيقي بالثقافة العربية والعالمية.


ترميماً لأوجاع المدينة
في مقدمة إحدى مسرحياته، يقول المسرحي السوري الراحل سعدالله ونوس: «إننا نحاول ببعض الوسائل الاصطناعية كسر طوق الصمت»، ويعني هنا صمت المتلقي. يستند ونوس في كلامه إلى تجربة المسرحي الروسي مايرخولد (1874-1940)، الذي دعا إلى تطور العلاقة بين المتلقي والعمل المسرحي. ينتقل سليمان البسام ليحاكي المتلقي الأصغر وهو الجمهور، إلى المتلقي الأكبر وهو الشعب العربي. نتحدث مع المخرج الكويتي سليمان البسام، عن المدن العربية ومسارحها، ورهانات المسرح اليوم. وهو الذي يتوق لملاقاة الجمهور في بيروت، ويتطلع قدماً لتفعيل المشهد الثقافي، الخاوي هذه الأيام، خاصةً أنه في أوقات الريبة، ينتج الفنانون المسرحيون على وجه التحديد، أعمالاً قاتمةً، تكون انعكاساً للعصر. هذه الرؤية التي يقدمها المخرج الكويتي، تأتي مبهجةً لتنوع المشهد الفني المعاصر. العرض في بيروت، يُعد أمراً ملحاً بالنسبة إلى البسام، ويأتي رغبةً في التضامن مع «مسرح المدينة». لأن بيروت تمثّل الكثير من الأشياء بالنسبة إليه، وقد أتى ليرمم دماراً أُلحق بفضاءات هذه المدينة، على يد تجّار الموت، وأمراء الحرب.
بالعودة إلى المسرح العربي، يؤكد البسام في لقائنا معه، على هامش التحضير لعرضه على خشبة «مسرح المدينة»، أنّ المسرح في العالم العربي لم يكن وليد موروثات وتراكمات ثقافية، وإنما حاجة. لم يعرف العرب فنّ المسرح قديماً كما عرفته الشعوب الأخرى. وهذا ما قد يرجع إلى عوامل عدّة. أولاً، العامل الاجتماعي، أي أنّ الحياة لم تتح الاستقرار للعرب، بالإضافة إلى طبيعة الإنسان العربي، وتماهي شخصيته مع الحياة القديمة. ثانياً، العامل الديني، فالديانات التي اتّبعها العرب في العصر الجاهلي، كانت بسيطة، غير قائمة على فكر يحاول تفسير علاقة الإنسان بالكون، وإنما كانت أشبه بتسليم حتمي للماورائيات. وأخيراً، العامل اللغوي، حيث تقوم اللغة العربية على النغم، لذلك كان المسرح أقرب إلى الشعر. يضيف البسام، إن الإنسان العربي منذ الأزل لم يبحث في فرديته، بل ارتكز إلى فكرة الجماعة. لذلك، فإن المسرح في العالم العربي، يقوم على محاولات فردية مرتكزة إلى الاقتباس من المذاهب المسرحية التي انتشرت في أوروبا وأميركا وشرق آسيا، حسبما تقتضي الحاجة. «إن المسرح هو متنفس الشعوب». لذلك هناك سعي دائم لبناء فضاءات مسرحية، قادرة على تحفيز الثقافة الفردية لدى المتلقي. ويختتم: «لا مسرح عربياً خالص، ولم تتوافر أي أرضية لبلورة المسرح في العالم العربي». لذلك أتت الممارسات المسرحية على شكل مبادرات فردية.


حلا عمران.. صوت الشجن والعالم المقهور
كأنّ المدن العربية وفواجعها، اجتمعت كلها، في صوت حلا عمران. في «آي ميديا»، يبدو لافتاً حضور الممثلة السورية، خرّيجة معهد الفنون المسرحية في سوريا. لا تضرب حلا الجمهور، بالتخدير والانغماس السلبي في العرض، بل تتسع وسائل التغريب، حتى تشمل طرق التصوير الأدبية في نصّ المسرحية الأصلي، كي يصير الحدث غريباً في نظر المشاهد. «ميديا» الإغريقية هجرت أهلها، ولجأت إلى كورنثيا، كلاجئة، عبر البحر، شأنها في ذلك شأن الإنسان العربي. تقاطعات عديدة بين ميديا الأمس، وميديا اليوم. حلا عمران، الآتية من أرض الشتات والنزاع وإراقة الدماء، تطرب الروح بصوتها، وتحلّق في فضاءات العالم المقهور والمعذب والغارق، على حواف البحر المتوسط، المتمسك بأمل عبور البحر من ضفة اليأس إلى ضفة الأمان. هكذا تنصت الشخصية/ الممثلة، إلى نبض مجتمعها ونفسها ومؤلفها. بطبيعة الحال، تحمل الممثلة في هذا العرض، فكر المؤلف والمخرج والشخصية التي تقدمها. تجسد شخصية كاتبة، مهاجرة من بلدها ومقيمة في بلد يطل على البحر ويستقبل لاجئين. تتقاطع تخبطاتها النفسية وصراعاتها الداخلية مع الظروف الخارجية. تكمن المعاصرة حسبما تذكر حلا، في فكرة العلاقة والربط بين الظروف السياسية وأزمة اللجوء الحالية. حلا التي تتوافق ملامحها مع الشخصية التراجيدية، تقول بأن الجمهور لا يلفظها. حتى إنّ العنف الذي تولده الشخصية يأتي مضخماً إلى حد كبير، لتجسيد فكرة الحق. بشجن صوتها المعهود، لم تعمل حلا للتأثير عاطفياً على الجمهور، ولا تطغى العاطفة على المستوى الفكري. في هذا العمل، تبدو لافتةً مشاركة فرقة Two or the Dragon، التنين، عبد قبيسي وعلي حوت، ليكونا مؤلفي صيغة صوتية وموسيقية. عمل الثنائي على تفتيت الموسيقى، وفق رؤية راديوفونية أيام الجائحة، لإعداد بنية جديدة للنص تتوافق مع الرؤية المعاصرة للبسام، ونقله من التجريد ومادته الركحية إلى لغة تشكل فضاء صوتياً وموسيقياً. كل الموسيقى اعتمدت على الارتجال، وإعادة صياغة المقامات الكويتية الموسيقية، والتراث البحري، لما له من علاقة مع الطقس الديني والتراجيدي. فتأتي وظيفة الموسيقى للربط بين الجانب الإغريقي والمعاصر.
في المحصّلة، بناءً على ما تقدم، يمكن القول بأنّ الفن المعاصر لم يعد يبدو معاصراً، بحسب ما يذكر الكاتب الأميركي هال فوستر (1892 - 1982)، أحد أعمق المنظّرين الدراميين. بمعنى آخر يجوز السؤال حول ما إذا كان للفن المعاصر تأثير متميز على الحاضر، بقدر يزيد عن أي ظواهر ثقافية أخرى؟ بالاستناد إلى فوستر، يمكن القول إن الفنانين يستطيعون ــ بعدما تحرّروا من عبء التاريخ ـــ صنع أعمال بأي طريقة يرغبونها، أو لأي غرض يرغبونه، أو من دون غرض على الإطلاق. فأيّ غرض وتأثير يريده البسام في «آي ميديا»؟ في انتظار أن يُرفع الستار عن عمل المسرحي الكويتي، على خشبة «المدينة».