باريس | كثيرات هنّ الممثّلات اللواتي طبعن بأدوارهن كأمهاتٍ مسيرتهن المهنيّة، حتى طغى دورهنّ المشغول بعنايةٍ على أحداث القصة، وأضحى أداؤهنّ أيقونياً لشدة صدقه وواقعيّته. يغدو الدور بحدّ ذاته حدثاً مفصلياً لا تعود بعده المؤدّية والمتلقّون على السواء كما كانوا قبله. والأمثلة كثيرة من القديرة جولييت عوّاد بِدَور «أم أحمد» في «التغريبة الفلسطينية»، إلى أمال سعد الدين بدور «أم عطا» المقدسية (مسلسل «حارس القدس») التي وجد مطران القدس المقاوم هيلاريون كبوجي لديها الملاذ والحضن الدافئ في غربته، والقائمة تطول. لكن مهما كثُرت الأمثلة، الأكيد أن عايدة صبرا حجزت لنفسها مكانةً مرموقةً على هذه القائمة من خلال دورها كأمٍّ مكلومةٍ على مسرح وجدي معوّض. ملعبُها خشبة المسرح الذي تمتلك كلّ أدواته الماديّة والحواسيّة على السواء.بعد مونودراما «وحيدون» و«شقيقات»، ومع غروب شمس الأيام الأخيرة لعام 2021، كان روّاد مسرح «لاكولين» الباريسي على موعدٍ مع «الأم». موعد بات منتظَراً لاستكمال ثالث حبّات سُبحة السيرة العائلية التي كان المسرحي اللبناني-الكندي وجدي معوّض ينحت تفاصيلها لأكثر من عشر سنوات على درب المشهدية التي ستكتمل مع آخر حلقتَي السلسلة: «الأب» و«أشقّاء».
بَيد أنّ المدماك الأول للتعاون بين وجدي معوّض وعايدة صبرا لم يبدأ مع أولى تجارب الأداء على خشبة «مسرح لاكولين»، ولا مع أولى الكلمات التي خطّها كاتب النص أو حتى مع الشرارة الأولى للفكرة. شاءت الأقدار أن يُرسى هذا المدماك أوائل التسعينيات، على متن حافلةٍ كانت تذرع طرقات مونتريال، استقلّتها الممثلة عايدة صبرا. فإذا بحديثٍ عابرٍ يدور بينها وبين الراكب جوارها... تخبرُه أنّها ممثلةٌ لبنانية، فيَحضره اسم شاب لبناني الأصل، بدأ يلمع اسمه في عالم المسرح... كان ذلك وجدي معوّض.
لم يتوانَ جليسُ الطريق عن إعطاء عايدة رقم هاتف معوّض، فلربما يحصل تعاون بينهما مستقبلاً. «احتفظتُ بالرقم...» تقول لنا عايدة، «لكنّني لم أجرؤ على الاتصال به». ثلاثون عاماً مرّت قبل أن تتلقّى عايدة اتصالاً غير منتظَرٍ من وجدي معوّض نفسه، يطلب إليها أداء دور والدته في عمله المسرحيّ الجديد. بقيت قصة رقم الهاتف سرّاً إلى أن أفرجت عنه بطلة العمل عقب إحدى أمسيات العرض.
«لم أبكِ منذ وفاة والدتي». بهذه الجملة افتتح وجدي معوّض عمله الجديد، معلناً أنّ وفاة والدته، جاكلين معوّض، في 18 كانون الأول (ديسمبر) 1987 كانت آخر عهده مع دمعٍ جافاه بعدها سنينَ طويلةً. لم يكن وجدي طفلاً حينها، إذ كان يبلغ 21 عاماً. أمّا والدته فلم تكن قد تجاوزت الخامسة والخمسين، إذ كان الورم الخبيث أشد فتكاً عليها من آلات الحرب الطاحنة.
عام 1978، فرّت جاكلين مع أبنائها الثلاثة من ويلات الحرب، ظنّاً منها أنّ سفرهم مؤقت، بينما بقي ربُّ الأسرة، عبده، في بيروت تحت خطر القصف أو التهديد بالخطف لمواصلة أعماله وإرسال المصروف الذي تحتاج إليه عائلته للعيش، أو بالأحرى للنجاة، بعيداً عن ساحة الحرب.
على مدى ساعتين، يقدّم معوض عملاً بعينَي وجدي الطّفل ذي الأعوام العشرة. قصة سنواتٍ خمس قضاها مع والدته جاكلين وشقيقته الكبرى نايلة وشقيقه الأوسط ناجي في ملجئهم الباريسي الشاهد على آخر سنوات طفولته. كان الملجأ شقةً باريسيًّة في أحد أحياء عاصمة الأنوار المُنعَمة، لكنّه في واقع الأمر يكاد لا يختلف كثيراً عن الملاجئ التي عرفها وخبِرها اللبنانيون جيداً في أقبية مساكنهم في خضمّ الحرب الأهلية.
لم تكن تلك الشقّة بالنسبة إلى جاكلين سوى مأوى مؤقت، تستعد، شهراً بعد شهر، لمغادرته حيث ينبغي لها أن تكون: في بلدها وبرفقة زوجها. لكنّ أمد مكوث العائلة في باريس طال مدة خمس سنوات، ليحطّ بهم الرِّحال عام 1983، في منفى آخر هو مونتريال في كيبيك، إذ بخلت عليهم فرنسا أيام ولاية فرانسوا ميتران بتجديد تصريح إقامتهم أو إعطائهم حق اللجوء، ولن يُقدّر لجاكلين أن ترى لبنان مرة أخرى أبداً.
«أنا مُنهارة!... أعصابي مُنهارة!... روحي مُنهارة!» تصرخ الأم التي عدِمت الصبر وأساليب التعبير. جاكلين أشبه بِكرة نار منبعثة من بركانٍ ثائر، تحاول دون جدوى إيجاد مصرفٍ لِفَيض طاقتها، فَتَرَاها متشاغلةً في الأعمال المنزلية وتحضير الطعام، الكثير منه. هي حيلتها المكشوفة للتغلّب على ما يعتريها من قلقٍ ومخاوف، وقد نالت منها أكثر السيناريوهات قتامةً حيال مصير زوجها الماكث تحت وبال الحرب.
الجميع مُتطلّع إلى انتهاء الحرب بين لحظة وأخرى، أو مفصلٍ سياسيٍّ وآخر، أو زيارةٍ من هذا المبعوث أو تدخّل ذاك، راجين استعادة حياتهم كما ألِفوها سابقاً. يكون أصغر الأبناء شاهداً على الأقدار تسحق أعزّ شخص لديه، والدته، من دون أن يتمكن من التعبير عن ذلك أو التأثير بمسار الأحداث أو حتى إدراك هولها بِحَق، وبدون دراية منه أن هذه الأحداث لن تكتفي بطبع ماضيه فحسب، بل ستطبع حاضره ومستقبله إلى الأبد، تماماً كتأثيرها على أشلاء الذاكرة التي سيحملها عن والدته.
يلاقينا الكاتب في منتصف الطريق بين الواقع والخيال. ينسلّ معوّض ذو الـ 53 عاماً بصمت ثقيلٍ إلى خشبة المسرح، متنقلاً كالشبح بين أفراد عائلته أواخر السبعينيات تارةً، وطوراً معيداً تكوين عناصر الديكور من أثاثٍ متواضعٍ بسيط للانتقال بين مشاهد العرض المختلفة. يسبر معوض أغوار علاقته المؤلمة مع والدته، عبر إعادة نسج رابطٍ مع الطفل الذي كان عليه، ويحاول يائساً أن يغدو مرئياً لهذه الأمّ المرهقة التي لم تسلم من الحرب رغم بُعدها المكاني، والمتشبّثة بأمل العودة إلى لبنان، وهو ما لم يُقدّر له أن يحصل.
تؤدي أوديت مخلوف دور نايلة، الشقيقة الكبرى لوجدي. هي كالدرع يمتصّ الصدمات التي لا تأتي فرادى، بل تُترجمها حيويةً وطاقةً هائلتين، وقدرةً على إدارة شؤون عائلتها في منفاها القسري، بعكس والدتها التي كانت تُترجِم قلقها ويأسها غضباً وسخطاً على أتفه التفاصيل. أما الشقيق الأوسط ناجي، فلا يزال شخصيةً غير مرئيةٍ حتى هذا الجزء من السلسلة، كأنه يقبع في الجانب الآخر من جدران غرفة المعيشة.
على مدى الأسابيع الستة التي امتدّ عليها العرض، تناوب أربعة أولادٍ على أداء دور وجدي ذي السنوات العشر، وتميز كلٌّ منهم بموهبةٍ لا يمكن المرور دون الثناء عليها، وبتماهٍ مُطلقٍ مع التطوّر الطبيعي لمهارات وجدي في اللغة الفرنسية شهراً بعد شهر، وتخلّصه من اللكنة الغريبة التي وسمت كلامه أول العرض.
مَن اعتاد متابعة أخبار الثامنة مساءً على القناة المحليّة الثانية حينها، سيَحضره بكل تأكيد الوجه الإعلامي المخضرم في التلفزيون الفرنسي، كريستين أوكران، التي كانت قيمةً مضافةً في العرض ليس سوى عبر أدائها دورَها الحقيقي كمذيعةٍ للأخبار، مكرِّسةً كلَّ ما يقتضيه الدور من كاريزما لا تنقصها للإقناع.
تنافست الأحداث الملتهبة للحرب الدامية في لبنان في ذلك الوقت مع أخبار عجز نظام الضمان الاجتماعي الفرنسي عن احتلال المرتبة الأولى في نشرات الأخبار، وأضحت كريستين أوكران جزءاً من يوميات عائلة معوّض في فرنسا، بل خامس أفرادها، إذ إنها لم تكتفِ بإبلاغهم آخر مستجدات الحرب على أرضهم خلف مايكروفونها وشاشة التلفزيون، بل كانت تدخل في حواراتٍ جادّةٍ مع أفراد العائلة، دون أن تعدم روح الدعابة في كثيرٍ من المواضع، خاصّةً في أحاديثها مع وجدي ذي السنوات العشر، وما هذا إلا تأكيدٌ على المكانة التي شغلها التلفزيون في المنازل في ذلك الوقت ودوره المحوريّ في صقل الرأي العام.
لم تستطع أغنيات تلك الحقبة التي كانت تبثّها الإذاعة الفرنسية وبرامجها الفنية، ولا إلمامُ جاكلين السابق باللغة الفرنسية، أن يجعلا اندماجها في مجتمعها الجديد أمراً سهلاً سلساً، ولربما كانت في لاوعيها قلقةً من خسارتها أبنائها أمام ثقافةٍ جديدةٍ غريبة عنها. أما المؤثرات الصوتية المرافقة لما عُرض من تقارير إخبارية خلال تلك الفترة، فقد كانت كفيلة بإيقاظ الرعب الدفين لدى من عاشوا الحرب، وردِّهم إلى أيامٍ تأبى أن تغادر ذاكرتهم، إذ ما أشبه الأمس باليوم!
المؤثّرات الصوتية المرافقة، كانت كفيلة بإيقاظ الرعب الدفين لدى من عاشوا تلك الحقبة


لم تكن جاكلين تستطيع الوصول إلى زوجها عبر الهاتف. الخطوط مقطوعة باستمرارٍ بفعل الاشتباكات. حتى رنينُ الهاتف بات مرعباً ثقيل الوطأة، إذ لا يدري المتلقّي ما قد يحمله إليه. جاكلين غاضبةٌ، مبالغةٌ في أعمال التنظيف والطبخ، لا تتوانى عن الصراخ والشتم... حتى كانت تلك الصرخة التي ينفلق بها الحجر، صرخة لا يعلوها صوت انفجارٍ أو انهيار مبنى بفعل القصف، صرخة امرأةٍ تعيسةٍ وردها خبر غير مؤكدٍ من أحد أقربائها في المهجر عن احتمال قضاء ربّ الأسرة بفعل القصف. يا لها من لحظاتٍ ثقيلة تعتصر القلب، لا يعود مهماً بعدها تحقّق الحضور من صحّة الخبر.
قد يعيب بعضهم على النص تواتر استخدام عبارات السخط الجلفة والنافرة التي كانت تنهال كالقنابل التي تمطر سماء بيروت، وما هذا سوى مرآة لخشونة شخصية جاكلين، وانعكاس لغضبٍ دفين على كلّ ما أودى بهم إلى ما أضحوا عليه حينها، فما بالك بلغةٍ محكيّةٍ أكثر عباراتها تَحبُّباً هي كلمة «تقبرني»؟!
مشهدٌ وحيد، وصورةٌ وحيدة هما كل ما تبقّى من عشاءٍ لمَّ شمل عائلة معوّض في باريس مع والدهم قبل أن تحط بهم الرحال في كندا، وتفجعهم الأيام بإصابة والدتهم بورمٍ خبيثٍ تأتّى من خلال عُقَدٍ ملأت جسمها المتهالك. جاكلين ضحيّةٌ بالأصالة لا تختلف عن أيٍّ ممن قضوا تحت وابل النيران، إذ إنّ الأثر النفسيّ لما مرت به كان كفيلاً باستحكام السرطان ببنيانها الصلب. تُعرض صورٌ حقيقيةٌ لجاكلين في نهاية العرض. كانت امرأةً جميلةً ذات وجه جادّ الملامح، لا تبتسم حتى في عقد قرانها وزفافها. لعلّها واحدة من كثيراتٍ لم تقسم لهنّ الحياة نصيباً من السعادة وراحة النفس والبال.
بعكس «وحيدون» و«شقيقات»، فإن «الأم» هي المسرحية الأولى في السلسلة التي حُمِّلت عنواناً بصيغة المفرد، إذ ليس هناك سوى أمٍّ واحدة. بيدَ أن صيغة الجمع تبقى متخفّيةً وراء صيغة المفرد. بحسب معوّض، لكلّ لبنانيٍّ والدتان: أُولاهما أمّه التي أنجبته، وثانيتهما الحرب التي تطلقه إلى الحياة تماماً كوالدته البيولوجية. لن يكون معوّض استثناء، كأنّ للحرب فضلاً في إيصال معوض إلى خشبة المسرح، ولأنقاض هذه المأساة اليد الطولى في نحت شخصيته على ما هي عليه اليوم. المسرحُ يجعل كل شيء ممكناً، لذا قد يكون هو وسائر الفنون التعبيرية مَلاذاتنا لأجل إنقاذنا من بعض ابتلاءات الدهر، ما يضفي عليها دوراً حيوياً، بل علاجياً، للممثلين والحضور عل حدّ سواء.