تنهار النظم السلطوية، والأبوية، والبطريركية في مسرحية «مفروكة» (إخراج: رياض شيرازي)، أمام قوة «النسوية». في نص وفاء حلاوي ومروى خليل، يدخل النوعان، التراجيدي والكوميدي، بنائياً، لتصير تراجيديا المرأة، كوميديا غير منتهية. في السياق، تتسم «مفروكة» بميزة واضحة: المشكلة من دون حلّ، ما يضع هذه المسرحية في إطار الكوميديا السوداء، في حين تجسد شخصية «أمل» ثلاث ممثلات (وفاء حلاوي، مروى خليل وسيرينا الشامي)، للدلالة ربما، على الخصوبة، والجاذبية، والبراعة، وفق الميثولوجيات الشعبية للرقم «ثلاثة».ليس هناك قاعدة، لإيجاد أو اختيار عنوان لأي مسرحية. لكنه يبقى عنصراً توجيهياً، يدفع المتفرجين لمشاهدة العرض. وعليه، فاختيار «المفروكة» بشكل ساذج عنواناً لعرض يدعو لتحرر المرأة التي «فركتها» الحياة، في حين أنّ العنوان نفسه، ينمّط المرأة، ويُضعها في القوالب والأدوار الجندرية التي حدّدها لها المجتمع الذكوري. بينما كان من الأجدى ربما أن يكون العنوان صرخة احتجاج ضد كل هذه النظم، لم يأت هذا التهكّم خادماً لفكرة العرض.

من العرض

يتناول الموضوع الأساسي في «مفروكة»، حياة النساء المطلَّقات من الطبقة الوسطى. يدخل دهاليز المحاكم الروحية، وقانون الأحوال الشخصية، ومأساة المطلّقات ومعاناتهن مع هذه المحاكم، التي تعشّش البيروقراطية في أرجائها. تطرح المسرحية كذلك مشاكل التربية، كالتعليم أونلاين، والاهتمام بالأولاد، وتقدم المرأة كمنتجة، ومرشحة لنيل أعلى المناصب، في سياق خطابي، وتلقيني، مألوف ومباشر. لوقت طويل، تتحدث أمل مع جارتها، ليتم كشف تاريخ الشخصية، وواقعها، وتطلعاتها. تنتقل أمل، في الفضاء المسرحي، لتجسد كل ما تمر به، لكنها تعود إلى الجارة، ولمناداتها، وإسماعها ما يدور في داخلها. كل ذلك، يجعل الأداء المسرحي على مستوى الشكل، بدائياً ومتوقَّعاً، مصحوباً بنص واضح ومباشر للغاية، ما أضعف الصنعة الأدبية للكتابة المسرحية.
على مستوى التمثيل، كان أداء الممثلات لطيفاً، لكنه لم يصل إلى مرحلة الإبداع. سيرينا الشامي استعملت أساليب وتقنيات مسرحية أكثر من غيرها. لكن كان واضحاً أن أداء حلاوي وخليل، لا يوائم تقنيات المسرح الأساسية، تحديداً على مستوى الصوت والجسد. يحتاج المخرج ـــ إذا عمد إلى تغييب وظيفة «إدارة الممثل» ــــ إلى أن يعمل بشكل مضاعف مع الممثلين، لتجسيد الشخصية بشكل عضوي، وفعّال، وإبداعي.
في ما يخص البنية الخارجية، يؤمن مخرج «مفروكة»، التنسيقات الفضائية، لخدمة النص الدرامي. مثلاً، يجسد الديكور، عيد ميلاد أحد أبناء «أمل»، أو يتحول إلى قاعة محكمة، أو ملهى ليلي. إنَّ النص المهم يتكلم عن نفسه، ولا حاجة إلى أن يحمّله المخرج تعليقات بصرية أو سينوغرافية. حتى إنَّ الممثل يمكنه أن يجسّد الفضاء انطلاقاً من نفسه، ما يجعلنا نقدر براعة الممثل الحركية ونقاء النص. مع ذلك، كان جيداً خيار الألواح الخشبية في سينوغرافيا هذه المسرحية، التي تبدأ على شكل «ثالوث»، ثم تضيق الخناق على الممثلاث الثلاث، لتنتهي بفتح الألواح الخشبية، أمام المتفرج، في مشهدية بانورامية، تدل على تحرر أمل وتفلّتها من القيود.
هذا العرض يتطلب إعادة النظر في رؤية دينامية جديدة. يجب تعديل دور المشاهد، وتنشيط إدراكه أكثر، بخاصة أن رياض شيرازي بالغ باللعبة الإخراجية الكلاسيكية. كان ممكناً له أن يكسر إيهام الجمهور بطريقة معينة، لكنّه آثر الاشتغال طوال الوقت على إيهام الجمهور بأنّ ما يحصل حقيقي. يتطلب الأمر إعادة إنتاج مسافة (تماسف) تسمح بالتعرف إلى الموضوع، وفي الوقت نفسه تجعله فريداً ومغايراً للمألوف. التماسف عند بريخت مثلاً، ليس فعلاً جمالياً فقط، بل سياسي أيضاً، وتأثيره لا يتعلق بإدراك جديد، أو بتأثير هزلي. كل ذلك يتطلب إعادة التفكير في الخيارات الإخراجية، لينتقل العرض من الحالة الجمالية البحت، إلى الحالة الإيديولوجية للأثر الفني. تقودنا هذه الأفكار إلى القول أيضاً، إن خيار تقليد الواقع، لم يكن جيداً. كان يجب وضع الواقع في إشارات. حاول المخرج من خلال اختيار أغنية «التنورة» لفارس كرم، وأغاني «المهرجانات»، نقل الواقع كما هو، من دون تفكير. هذه الخيارات لم تشر إلا إلى شيء واحد هو الابتذال. لماذا يعمد المخرج إلى خيار موسيقي مماثل؟ كان ممكناً البحث عن خصوصية شخصية «أمل» والغوص في داخلها لإظهارها، في إشارات، لا بمحاكاة للواقع المألوف.
تضعنا المشهدية الأخيرة، أمام حقيقة نظامنا القاسي الذي يحتاج إلى إعادة النظر. النظام الأبوي، يطرد المرأة من صورة العائلة، في عيد ميلاد أبنائها. يلفظها، ويخرجها بقساوة، ووحشية، وعنف، خارج الصورة النوستالجية لهذه الذكرى. تخرج المرأة قسراً، لا طواعية، بشكل مذل وقاس. حقيقة تحتم علينا الإعتراف بأن عذابات النساء في أوطاننا، لا يمكن أن تكون على هذا القدر من الاضطهاد.
الأداء بدائي ومتوقّع، ونصّ واضح ومباشر


لماذا وقع الاختيار في «مفروكة»، على امرأة تنتمي إلى الطبقة الوسطى؟ ولماذا لم ينزل العرض إلى القعر حيث المعذَّبات في الضواحي والأطراف؟ ميشيل فنيانوس (صاحبة شركة استشارية خاصّة) وأحد القائمين على العرض، تجيب بأن المسرحية تسعى إلى محاكاة الطبقة القادرة على حضور المسرح. قد تكون المسرحية تستهدف المعني بواقع المرأة السياسي أو الاجتماعي، والقادر على التغيير. يمكن التأكيد بأنّ كان هناك صعوبة في جذب جمهور الطبقات الفقيرة إلى هذه المسرحية. تعليقاً على ذلك، ارتأت فنيانوس «إعادة بلورة هذا العرض، بما يتناسب مع الأرياف والهوامش»... عبارة تفتح علامات استفهام كثيرة، أبرزها سؤال يتعلّق بصدقية وأصالة الفن (أكان مسرحياً أو غيره) حين يدخل عمل المنظمات غير الحكومية والجمعيات والشركات الخاصة إليه!

* «مفروكة»: حتى 3 نيسان (أبريل) المقبل (كل خميس، وجمعة، وسبت، وأحد ـــ 8:30 مساء) ــ «مسرح مونو» (الأشرفية ـ بيروت) ـ تباع البطاقات في فروع «مكتبة أنطوان».