من هو المستبد؟ من أين بدأت دائرة العنف التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ذواتنا وشخصيّاتنا؟ هل تشوِّه ذاكرتنا وتؤثّر على تفاصيل حاضرنا؟ هو تشوّه خُلق مع حيواتنا الشخصية أم هو امتداد لتاريخ بلاد، لتاريخ منطقة، لتاريخ عائلة بأكملها؟ أسئلة معقّدة وإشكالية قد تتطلّب بحثاً أنثروبولوجياً في تاريخ مجتمعنا وتاريخنا الشخصي، ومحاولةً جديةً لإيجاد أجوبة من خلال البحث في ذواتنا الشخصية، لكي نجد أسباب وتجليّات عنف مكرّسة في ذاكرتنا الجمعية.
من عرض «ماذا لو لم تكن تلك الدموع دموعي وحدي؟»

في هذا الفلك، تدور ثيمة العرض المسرحي «ماذا لو لم تكن تلك الدموع دموعي وحدي؟» للممثلة والمخرجة رشا بارود. يدخل العرض في تفاصيل التاريخ الحميمي لعائلة المخرجة، ضمن رحلة للبحث عن الذات وعن سبب القلق في حياتها المعاصرة، من خلال قصة الجدة ذات الشخصية القاسية، وأثر هذه القسوة في خلق عقد وحواجز وترومات في شخصية رشا، لتدخل بعدها في تاريخ الجدة ذاتها. نكتشف أنها زُوجّت وهي في الـ 14 من العمر، أي أنّ حياتها بأكملها بدأت على أساس اغتصابها كطفلة. كما لم يكن لديها أحقيّة بالشعور بأنّها ضحية أو أنها تعرّضت لظلم ما. هذا الاغتصاب كان تحت مسمى تأسيس عائلة. ومع الاغتصاب الجسدي، كان هناك اغتصاب فكري هو السبب الأساسي في خلق قلق وجودي، وشرخ في الذات أقل ما يمكن له أن يخلق هو شخصية عنيفة وقاسية ستمارس العنف على من هم أضعف وأصغر منها.
تنتقل الحكاية من البحث في ذاكرة المخرجة الشخصية إلى البحث في تاريخ العائلة، بهدف محاولة اكتشاف سبب وأثر ندبة في الروح. هي إرث عائلي، لا ندبة شخصية.
يبدأ السرد في العرض من خلال سرد شفوي لنص كتبته المخرجة، تتلو فيه تاريخ العائلة من وجهة نظرها الشخصية. سرد ذو تسلسل زمني يحمل شعرية عالية، ويعتمد على تقنية أقرب إلى المونولوج، نظّرت لها الباحثة آن أوبرسفيلد بأنّها: «شكل من أشكال المناجاة التي تحتوي على تساؤل واضح أو غير واضح، موجّه إلى مستمع». والفرق بينه وبين المونولوج، هو أن المونولوج يعمل على إظهار تساؤل داخلي للشخصية. أما شبه المونولوج، فهو سرد لا نهاية له، تكون اللغة فيه فعلاً بحد ذاتها. وهذا هو الهدف من نص بارود الذي تم إلقاؤه بإتقان وثبات انفعالي يُدخل المتلقّي في الرحلة الفكرية لقسوة الذاكرة.
هذه التقنية كانت أساسية في نصوص الكاتب المسرحي الفرنسي برنار ماري كولتيس، حيث نجد تأثراً واضحاً في نص بارود بنصوص كولتيس، خصوصاً كونه مكتوباً بالفرنسية ويُلقى بها. استخدام اللغة الفرنسية في العرض كان تعبيراً عن تشظّي الذات وضياع الهوية، كما ساعدت اللغة في خلق الحالة الشعرية القاسية الخاصة برحلة الذاكرة.
بعد النصّ، ينتقل السرد إلى سرد جسدي، من خلال مشهد مكوّن من جمل حركية عدة يستحضر مشهد زواج الجدة واغتصابها من خلال جسد رشا ذاتها. ويتم تكرار المشهد أكثر من مرة، وفي كل مرة تزيد الشحنة العاطفية، والأثر النفسي، والقلق والعنف.
ينقلنا هذا المشهد من البُعد الفكري لقسوة الذاكرة، إلى البُعد الجسدي الشخصي. التكرار يحمل رمزية استمرار هذا العنف في دائرة العائلة، وبالتالي في دائرة المجتمع. فقد تم ربط التجربة الفكرية (النص) مع التجربة الجسدية (الكوريغرافيا) بمتانة دراماتورجية (دراماتورجيا: وسام أرباش) وأداء جيد. ما خلق من الثيمة مستويات عدة وورّط المتلقي بالتدريج، بعقله ثم بمشاعره، في المحصلة، شكّل العرض تجربة شعورية للمتلقي كما هو بالنسبة للمخرجة والمؤدية.
وساعدت في ذلك كل عناصر الفضاء (السمعي، والبصري والحركي) بدءاً من الشاشة الموجودة في عمق المسرح، إذ كانت تعرض لقطات للقرية والمنزل والمكان والبحر التي تتحدث عنه الشخصية، وهي لقطات حقيقية لمنزل عائلة المخرجة بارود.
تتميز اللقطات بكونها مأخوذة بعفوية، لا تبحث عن جمالية سينمائية بقدر ما تبحث عن توثيق علاقة معقدة جداً مع هذا المكان. وهذه العفوية كانت البُعد الجمالي لهذه المشاهد التي حملت البُعد الصوري للذاكرة وساعدتنا في الدخول إلى عقل الشخصية.
مشاهد ثابتة طويلة واسعة وبطيئة وحميميّة بعض الشيء


كما تم استغلال مساحة الخشبة الكبيرة من خلال الإضاءة التي عملت على تجسيد حاضر الشخصية وهواجسها، وهي تستحضر ذاكرتها وذاكرة عائلتها، سواءً أثناء عملها على المشهد الحركي في فضاءات كثيرة، أو وهي تُلقي المونولوجات، ثابتة في فضاء واحد. كذلك، ساعدت الموسيقى (فادي طبال) في خلق حالة أسهمت في تكامل كل عناصر العرض، ليكون عرضاً متعدد الوسائط، استخدم السينما والموسيقى والحركة والنص والإضاءة، ليخلق رحلة في لا وعي الشخصية التي تبحث عن أسباب قلقها وتشوّهها النفسي.
تقول المخرجة لنا بأن مشروع «ماذا لو لم تكن تلك الدموع دموعي وحدي؟» استغرق أربع سنوات ونصف سنة من العمل، وشهد تطورات كثيرة في شكله الفني، من عرض مسرح موقعي، إلى فيلم وثائقي، وصولاً إلى صيغته النهائية التي جمعت ما بين التوثيقي والخيالي.
وفي سؤالها عن خصوصية المشروع بالعلاقة مع بلدها لبنان (مع العلم أنها تعيش في الخارج)، أجابت أنه «من المهم جداً للمشروع أن يُفتتح في لبنان، بسبب خصوصية وحميمية الثيمة، كما أنّ العرض في لبنان ومشاركته مع أشخاص يحملون الذاكرة المشتركة، يعدّ مرحلة مهمة من رحلة البحث عن الذات في دائرة العنف هذه»، آملة أن يكسر العرض هذه الدائرة من خلال الوعي لذواتنا وتشوهاتنا النفسية التي تفرض علينا استقبال العنف وإعادة إنتاجه.

* «ماذا لو لم تكن تلك الدموع دموعي وحدي؟»: س:20:00 مساء اليوم وغداً ـــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـــ للاستعلام: 01/753010