يتنوّع المشهد المسرحي في لبنان بتنوّع العاملين فيه من طلاب أو محترفين مستقلّين أو فرق مسرحية. الملفت في السنوات الأخيرة هو انتشار ظاهرة الفرق المسرحية من جديد نظراً إلى أنّ عمل الفرقة قد يكون أكثر جدوى في تكوين مشروع كامل مرتبط بالاستمرارية لا بالتجارب الفردية.ومن الفرق التي تعمل في المحترف اللبناني المعاصر، مسرح «شغل بيت»، التي تأسّست عام 2016 مع المخرج شادي الهبر. يتنوّع عمل الفرقة بين الإنتاج الكثيف، وبين إقامة ورش عمل مع هواة، إلى جانب برامج تدريبية قد تمتد سنةً كاملة. تسعى الفرقة بذلك إلى تكوين مجتمعها الخاص، وقد نجحت نوعاً ما في تحقيق اكتفاء ذاتي يساعدها على مواصلة الإنتاج، ساعيةً إلى مدّ جسر تعاون مع مكونات ثقافية أخرى، والانخراط في مشاريع مستقبلية مفتوحة على تجارب شبابية في الإخراج، وعلى تجريب أنواع فنية أخرى. يؤكد لنا المخرج شادي الهبر أن عمل الفرقة إلى الآن، كان مقتصراً على نصوص لبنانية، كما يتوقّف عند الثنائية الفنية التي يكوّنها مع الكاتب ديمتري ملكي، الذي كتب مسرحيته الجديدة «دفاتر لميا» التي ينطلق عرضها اليوم في «مسرح مونو». تعرض المسرحية (ريما الحلبي، جميل الحلو، مها أبو زيدان، انطوانيت الحلو) قصة حقيقية عن ماضي امرأة منسية جاءت من إحدى ضيع لبنان إلى بيروت في عمر الـ 13 لتعمل خادمةً. تبدأ المسرحية بمجيء ابن أخيها إلى البيت التي كانت تعمل فيه، بعدما توفيت، كي يأخذ ما تبقى من أغراضها، وتتجسد له لميا (عمته) لتبدأ بسرد ماضيها، وأسرار حياتها.
تبدو المسرحية بحثاً تاريخياً من قبل ابن الأخ (شادي) عن عمته، المرأة المنسية، فنكتشف مع شادي مراحل حياة لميا، أولاً عبر سردها مشاعرها المتناقضة عندما خرجت من البيت للمرة الأولى، وعندما رأت بيروت وجمالها، حيث سيطرت عليها حالة من السحر والدهشة والخوف والذعر في آن. بعدها، نتتبع مرحلة طفولتها وحياتها مع أبناء العائلة التي كانت تعمل لديهم، إذ أحبتهم كثيراً، فتارةً تشعر بأنها أختهم، وطوراً أنها خادمتهم. ننتقل بعدها إلى مرحلة المراهقة والحب. أغرمت لميا بـ «خضر» الذي يعمل في البقالية. نرى في هذه المرحلة شعورها بذاتها وبالسعادة الحقيقية للمرة الأولى، لكنّ الحرب جاءت وأنهت قصّة حبها بطريقة عشوائية، حين اختفى خضر بشكل مفاجئ وضاع مصيره بين القيل والقال. تتعلق لميا بالوهم، وتعيش قسوة العالم من جديد. تنتهي المسرحية باكتشاف شادي دفاتر مليئة باسم «لميا»، فنعرف أنّها تعلمت الكتابة بمساعدة إحدى بنات العائلة، لكنها لم تكتب إلا اسمها، الذي كان الفعل الأصيل الوحيد الذي قامت به كل حياتها، ما جعلها تحلم بشدة وتشعر بوجودها.
يتكرّس التناقض في أساس شخصية لميا، ورؤيتها إلى العالم، إذ تقع في حبّ المستبد وتبرّر له، وهذا الحب جعلها تفرض رقابة ذاتية على نفسها إزاء ما هو واجب أن تشعر به، أو الأحكام التي تصدرها على الخادمة الجديدة التي تعبّر عن استمرار دائرة العنف، وإعادة إنتاج ثقافة المُعنِّف من خلال المُعنَّف. ومع أنها تعيش صراعاً وجودياً يظهر بشكل متكرر ويتجسد في سؤال «ليش أنا؟». إلا أنّ صراعها وتمردها مرتبطان برؤية ذاتية ضيقة، لا رؤية شاملة تحاول فهم الظروف التي تعيش فيها هي والكثير من الفتيات، وهذا كان متناسباً مع طرح الشخصية، ما خلق عند المتلقّي مستويين لتلقّي الشخصية: مستوى عاطفي يتعاطف معها، ومستوى نقدي لرؤيتها إلى العالم، ومستوى نقدي للظرف الذي أنهى «حياة» إنسانة وهي في عمر الـ 13.
تتميز السينوغرافيا بحميمية عالية، تعبّر عن عالم الشخصية الضيق الحميمي والمليء بالأحلام


انعكس هذا الغنى في طرح الشخصية على الأداء. نقلت الممثلة ريما الحلبي، هذا الغنى إلى الخشبة، مع أنّها انزلقت إلى الكليشيه في الأداء في بعض المشاهد. في المقابل، لم يتم تقديم هذا الغنى في شخصية شادي (جميل الحلو)، إذ ظهر بشكل أحادي الجانب، كأنه مجرد مبرر درامي كي تتحدث لميا، مع أنه يمكن أن تنتقل الشخصية إلى مستوى أعمق عبر رحلة البحث التي وضعتها فيها الفرضية المسرحية، ورؤية ذاتها داخل حكاية العمة.
تتميز السينوغرافيا بحميمية عالية، تعبّر عن عالم الشخصية الضيق الحميمي، المليء بالأحلام، وهو مكان خصوصي، إلى درجة أنّ شادي كان بحاجة إلى دخول هذا العالم كي يعرف عن عمته الميتة، عبر تجسيد روحها في المكان الذي كان عالمها بأكمله، وكان سجنها حتى بعد مماتها. «دفاتر لميا» تطرح قضايا اجتماعية كثيرة باتت «دارجة» هذه الأيام في الأعمال المسرحية والفنية التي نشاهدها في بيروت: الظلم الذي تتعرض له المرأة التي تنوء تحت نير مجتمع ذكوري قاس، وعمالة الأطفال والعنف الذي تمارسه الضحية على الأضعف منها، وغيرها من الممارسات التي تطال الشرائح الأضعف في المجتمع.

* «دفاتر لميا»: بدءاً من اليوم حتى 12 حزيران (يونيو) ــــ «مسرح مونو» (الأشرفية) ـــ للاستعلام: 01/202422