لم يكن سهلاً على طلاب المسرح في الجامعة اللبنانية، أن يكملوا ثلاثة أعوام دراسية. أزمات صحية، واجتماعية، واقتصادية، كانت كفيلة بإضاعة الكثير عليهم. مع ذلك، قدّم طلاب السنة الثالثة أخيراً مشروع تخرّجهم النهائي (إشراف: رويدا الغالي. 105.د)، بعد اختيار «حالة طوارئ» (1984)، للكاتب الفرنسي ألبير كامو (1913- 1960) في مبنى الجامعة اللبنانية في منطقة الحدث. «قادش»، المدينة المترامية على سواحل الجنوب الإسباني، كم تتّسق أحداثها مع سياقاتنا الحالية، من بطش السلطات، وانتشار الخراب، والظلم، والأوبئة، حتى صارت الحياة في «قادش» متشابهة مع الموت... متشابهة مع حياتنا. تدخل حرم الجامعة اللبنانية في الحدث، وأكثر ما يلفت انتباهك، هو ذبول مساحاتها الخارجية الخضراء. ربما اعتاد خرّيجو السنوات التي سبقت الوباء، أن يشهدوا هذه الفوضى، لكن ليس إلى هذا الحدّ. حالة أشبه بالخراب، على مستويات عديدة، منها بيروقراطية، وتلوّث بصري تسببها الشعارات الحزبية، وغيرهما. جرت العادة، أن يقدم طلاب التخرّج، في قسم المسرح، في الفرع الأول، عروضهم النهائية، في حجرة أو «استديو» صغير، لا على خشبات المسارح في بيروت. في هذه الحجرة، ترى الطلاب اليوم، منهمكين في تحضير السينوغرافيا، وإجراء البروفات التقنية، لإقامة أكثر من عرض، يمتد على مدى أيام متتالية، بسبب السعة الاستيعابية الضئيلة للجمهور. اعتاد الممثلون، أن يتصبّبوا عرقاً، نتيجة الانهماك، والتوتر، وقوة الضوء في وجوههم. لكنّ عاملاً آخر، يجعلهم يتعرّقون، هذا العام، وهو توقّف التكييف، في ظل طقس حارّ. يبدأ العرض، ويعيش الجمهور «بهدلة» لا مثيل لها، مستخدماً «المراوح» اليدوية، ليتفرّج على عرض يمتدّ نحو ساعتين. ينقطع التيار الكهربائي في بداية العرض، هذه ليست المرة الأولى، إذ يتكرر الأمر مع الطلاب دوماً.
تبدأ «حالة طوارئ». أشبه بكرنفال احتفالي. مشهديات متناغمة من الرقص، والإيماء، والتعبير الجسماني، ونصوص باللغة المحكية، والفصحى تحافظ على نص كامو الذي يتميز بصنعة أدبية عالية. عجائز المدينة، وصيّادوها، وأطباؤها، يشهدون على موت «مهرّجهم»، وسط حالة من الذهول. البحر يلهمهم الرقص، رغم أن حياتهم قد «أضناها التعب»، في مدينة تملؤها البيروقراطية، والفساد القضائي، والأحكام الروحية المهترئة. يجري النص، مع تشكيلات حركية، في «ميزانسين» مدروس. روح جماعية عالية ومحسوسة، قوة أدائية لمعظم الطلاب، تنفجر إبداعاً في معظم الأحيان. لكن يهمد الإيقاع الحركي والنصي، أحياناً أخرى، بفعل بعض «الكليشيهات» والتنميط في أداء بعض الشخصيات. الوجوه تلمع من شدة التعرّق، «إننا نختنق في هذه المدينة المقفلة». جملة ترد في نص كامو، تشفي غليلنا، وتدخلنا في حالة من «التطهير»، بفعل هتاف الممثلين لها. على الرغم من ذلك، لا تغفل رويدا الغالي، أهمية كسر الجدار الرابع مع الجمهور، لإخراج النص، من صيغته الأدبية والشاعرية، وإدخالنا في حالة من الدهشة والفضول. ينتهي العرض، وقد أنهك الحرُّ، الممثلين، لتبدو صورتهم كأنهم عمّال منجم لا ينضب.
تتطلب الدراسة في المسرح، حضوراً جسدياً، وليس ممكناً تقديم العروض «أونلاين»، وهذا ما يزيد الطين بلّة. فالمسرح ليس كغيره من التخصّصات التي لا تتطلب الحضور إلا لساعتين مثلاً، لتقديم الامتحان. كان الممثلون يقضون أوقاتاً تطول من الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساءً، من دون انقطاع. هناك شغف بالمسرح واضح عليهم. تقول إحداهن، «إن المعاناة الأساسية تتمثل في تحمّلنا تكاليف النقل، نتيجة ارتفاع أسعار الدولار». في السياق نفسه، يؤكد أحد الطلاب لنا أنّه لم يكن باستطاعته أن يدفع كلفة عودته إلى بيته في الشمال، ولم يكن باستطاعته أيضاً، دفع إيجار منزل قريب من الجامعة، ما اضطره في بعض الليالي، للنوم في حرم الجامعة. يلفت آخر إلى أنَّ غياب بعض الأساتذة، وعدم قدومهم إلى الصفوف، نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات، أمر أثّر سلباً على عملية التعليم. الظروف كانت قاسية، لكنها لم تفرمل اندفاعهم. حالة من الشغف، والمتعة، والاكتفاء، ولّدها البحث في جماليات المسرح، والتتقيب في علومه. «من هنا حاولنا بدء مشوارنا الفني والثقافي، ولم نسمح للسلطات وأنظمتها بثنينا عمّا نريد تحقيقه». «المسرح هو أجمل مرحلة في حياتنا» عبارة تسمعها على لسان جميع أفراد الدفعة الحالية. «الوقت هنا غير ملموس... معظمنا يأتي سيراً على قدميه». لم تحبط الظروف هؤلاء الشباب، بخاصّة أن المسرح شكّل مساحة آمنة للتعبير الحر لهم.
تطلق رويدا الغالي، وهي أستاذة المسرح والرقص المعاصر في الجامعة اللبنانية، على الطلاب المتخرّجين لهذا العام، «دفعة الكورونا». حتّمت الظروف عليها بصفتها مشرفة، وضع خطة مكثّفة، مترافقة مع تثقيف فني للطلاب. «الهم الأساسي في المسرح، هو الإنتاجية، التي لطالما حدّثنا عنها الراحل يعقوب الشدراوي، وجاك لوكوك في فرنسا، إضافةً إلى المواظبة على إنتاج الأعمال الفنية في المسرح، للمساهمة في الإنتاج الثقافي». حرصت رويدا الغالي على البحث عن هوية فنية، للمشاركين في «حالة طوارئ»، والتركيز على مهاراتهم الفنية، وبلورتها. «كل واحد من الطلاب، فتّش عن نقاط قوته، بقدر ما عمل على نقاط ضعفه». على صعيد آخر، تصف المشرفة على مشروع التخرّج، ما يجري اليوم، بـ «فعل مقاومة»، مضيفةً: «لطالما عزلنا أنفسنا عن كل ما يجري خارج حجرة التدريب. لم نكن بمنأى عن كل التحديات، لأننا حوّلناها إلى جماليات ذات أبعاد فنية». يقول رئيس قسم المسرح السابق، في الفرع الأول، في معهد الفنون الجميلة، في الجامعة اللبنانية، والأستاذ المحاضر فيها، وليد دكروب، إنَّ «التحديات الصحية لا تزال تواجهنا، منذ الحجر الصحي الأول والكبير، في آذار (مارس)، وحتى منتصف حزيران (يونيو) 2020. اضطررنا وقتها مكرهين لتدريس موادّ المسرح العملية «أونلاين»، ثم عدنا إلى القاعات متحدّين المخاطر الصحية حتى أنجزنا المواد العملية. علماً أننا في 4 آب (أغسطس)2020 وقع انفجار مرفأ بيروت أثناء تحكيم مادة التمثيل للسنة الأولى. أما تحكيم مشروع التخرّج في التمثيل فكان في 11 آب 2020، أي بعد أسبوع واحد من انفجار المرفأ، في ظل وضع نفسي وصحي سيّئ للجميع، طلاباً وأساتذة. أما خلال عام 2021، ققد تم تعليم معظم المواد العملية حضورياً، مع اضطرارنا للتساهل في احتساب الغياب، بسبب الإصابات بكورونا. أما الوضع المادي، فحدّث ولا حرج».
لم تكن الأزمة صحية فحسب، بل توالت تداعيات الأزمة النقدية، على كل شيء. «معدات قسمي السينما والمسرح ، تحتاج إلى صيانة دورية. كاميرات، وبروجكتورات، وميكسرات صوت وإضاءة، وغيرها من المعدات، كنا نضطر إلى تصليحها، عبر جمع المال من الأساتذة والطلاب. أما الآن، فمن المستحيل القيام بأي أعمال صيانة في ظل الوضع الاقتصادي، وانهيار العملة، وارتفاع أسعار المحروقات، التي حالت دون الوصول إلى الجامعة. لدينا الكثير من الطلاب الذين يضطرون للوصول إلى الجامعة سيراً على الأقدام من المناطق المجاورة، أو على الدراجات الهوائية».
‏بحسب دكروب، فإن الأزمة انعكست على رواتب الأساتذة والموظفين، لأنّ معاشاتهم التي لا تزال على حالها، أفقدتهم القيمة الشرائية. «أما المتعاقدون فلم يتقاضوا أتعابهم منذ سنة ونصف سنة». كل ما سبق يؤثر سلباً على مستوى التعليم بلا شك. فهناك المواد التي لا تزال تُعطى «أونلاين»، بسبب تعذّر وصول الأساتذة من المناطق البعيدة إلى الجامعة، إذ لا يكفيهم الراتب ثمن «تنكة البنزين»، والأعباء المادية تكبر على كاهل الجميع، من مصاريف المولّد، إلى البنزين، والآن الإنترنت والاتصالات. كل هذا يؤدي إلى تراجع مستوى الأداء لدى الجميع. «قسم المسرح يحتاج ما تحتاج إليه الجامعة ككل، من مقوّمات البقاء»، يقول وليد دكروب. وحول هجرة الأساتذة والمحاضرين، يؤكد أن لا إحصاءات دقيقة، «إنما على مستوى القسم في الفرع الأول، فإننا نعاني، منذ سنوات، من تناقص حادّ في أعداد الأساتذة، بسبب التقاعد أولاً، ومنع التعاقد مع أساتذة جدد ثانياً. أما الآن، فقد بدأنا نواجه حالات سفر بداعي الهجرة لدى بعض الأساتذة، وحتى المتفرّغين منهم».
الكثير من الطلاب يضطرون للوصول إلى الجامعة سيراً على الأقدام


مَن يتحمل مسؤولية الانهيار الكبير؟ يقول وليد دكروب إنَّ الأستاذ الجامعي منشغل بكيفية تأمين سبل العيش الكريم والطبابة لعائلته، عدا وسائل الحياة البدائية من كهرباء وماء واتصالات وغيرها... أما تأمين البدائل وتوفير التعليم المستدام لطلاب الجامعة اللبنانية ككل، وليس فقط المسرح، فهما من واجبات إدارة الجامعة، ووزارة التربية، ومجلس الوزراء، الذين، مع الأسف، لا يرون في الجامعة إلا عبئاً عليهم». وسط كل ذلك، «لا وجود لخطة واضحة، إذ إن كل طاقاتنا تُهدر على تأمين طرق إجراء الامتحانات، والمازوت، والأوراق، والحبر، والشهادات، وصيانة المعدات. الأمور تجري كل يوم بيومه» يتأسّف دكروب على قوله ذلك.
في قسم المسرح في الجامعة اللبنانية، تسيطر حالة من «اللامعقول» أو «العبث»، وهو التيار المسرحي الذي خلّفته الحروب، والأوبئة، والبطش السياسي للسلطات، في منتصف القرن الماضي. لم تكن أزمة قسم المسرح في الجامعة اللبنانية، وليدة الأزمات الحالية، إذ لطالما عانى الطلاب على مدى عقود، من غياب الدعم المادي، وتهميش الجهات المعنية لهم. اليوم، وبعد تقديم العرض النهائي «حالة طوارئ»، أي مستقبل يحمله الطلاب؟ وما الذي ينتظرهم خارج حجرة التمثيل؟ ترى التأثر العاطفي واضحاً على وجوه الأهالي، في لحظة تخرّج أولادهم، وسط حالة من الضياع إزاء مستقبلهم!